ابراهيم الزبيدي
بعض القراء لا ينفع معه حوار، لأنه مصمم على عدم الاستماع إليك، ومصر على عدم تصديق إلا ما يرى أنه الصحيح. ولذلك فهو يمسك دائما، بقشرة مقالك، ويترك لبابه. فحين تتحدث عن إيران ومليشياتها والبلاوي الزرق التي جلبتها لنا وللمنطقة منذ انتصار الخميني، ولم تكن موجودة من قبل، يرد عليك بعصبية، ” ولماذا لا تكتب عن حقيقة إرهاب السنة التكفيريين والسلفية وكل من يدعمهم، ابتداءً من داعش والقاعدة وحماس والاخوان المسلمين …الخ، ودور العرب وقطر وتركيا والدول الاخرى؟ من فضلك إعمل إحصائية عن إرهاب الشيعة وإرهاب السنة وقل أيهما أكبر مصدر للارهاب والقتل، الشيعة أم السنة، ضعهم في الميزان، ولكن دون تحيز او محاباة”.
وبهذا التعليق يثبت هذا القاريء أنه واقفٌ عند آخر حلقة من المسلسل الدامي الأسود الطويل، ولا يريد أن يعود إلى حلقاته السابقة لتكتمل عنده الفكرة، وتصح الرؤية، ويعدل الحكم.
وقبل أن نبدأ الجدال نسأل، وأي فرق بين إرهاب وإرهاب؟ وهل القتل بالمفخخة يختلف عن القتل بالسكين؟ وهل هناك فرق بين قاتل يصلي ويداه مسبلتان، وآخر يصلي ويداه معقوفتان على صدره؟
إن الإرهابي، أيها القاريء المعترض العزيز، إرهابي، مهما كان لونه وجنسه وشعاراته، سواء كان بقبعة أو بربطة عنق أو بعمامة. لا فرق بين سني وشيعي يحمل مفخخة خارج الدولة والقانون. ولا فرق بين شيعي وسني يَسقط ضحية لقنبلة أو دبابة أو برميل متفجر يأتيه من السماء. وإذا كان السني إرهابيا وتكفيريا ووهابيا، هل يصبح الإرهابي الشيعي فاعل خير ومجاهدا في سبيل الله ورسوله وأئمته الصالحين؟.
والآن تعالوا معي لنتعرف على أول من اخترع فكرة الجهاد بالمليشيات، واعتمد عليها لتحقيق أهدافه السياسية، بدفَعها إلى انتزاع السلطة في بلدانها، أو تعطيل حياة أهلها وتخريبها، بقوة السلاح، كما حدث ويحدث في لبنان والعراق وسوريا واليمن والبحرين وفلسطين.
* فقد دفعت إيران بوكلائها العراقيين في المعارضة العراقية السابقة إلى الحضن الأمريكي من أوائل 1991، لتستغل قوة أمريكا، وتسخن عزمها على غزو العراق، وتستعين بها على النظام الذي أنهكها وأوقفها عند حدها، وعجزت عن النيل منه بكل عساكرها ومليشياتها المدججة بالمظلومية وحرسها الثوري وأموالها وكل أسلحتها المدمرة. وصدام، كما يعرف الأخ القاريء العزيز، جاء إلى الحكم مع الخميني في نفس العام. ويعرف أيضا وقائع الحرب الضروس التي اشتعلت بينهما، ويعرف أيضا
كم سحقت، وهجَّرت، وغَيَّبت من شباب العراق وإيران، وكم مدينة وقرية وجسر ومستشفى ومدرسة ومصنع وحقل أحرقها صدام حسين في إيران، أو دمرها الخميني في العراق. ويعرف أيضا عدد المفخخات والاغتيالات التي نفذها الوكلاء العراقيون بأوامر إيرانية موثقة، داخل العراق أو ضد سفاراته ومؤسساته في الخارج، والتي راح ضحيتها الأبرياء ولم تهز شعرة من رأس النظام. وكم من الاعتقالات والإعدامات وحملات التهجير التي نفذتها مخابرات صدام، بالمقابل، خوفا من تدخلات الخميني. بماذا يصفها القاريء المعترض العزيز؟، إرهاب أم جهاد.؟
* ولا ينسى المنتفضون العراقيون أن إيران أفشلت الانتفاضة عام 1991 حين أقدمت على استغلالها، وضخت فيها المئات من مجاهدي حرسها الثوري وشعاراتها وراياتها السوداء والخضراء وصور الأمام، الأمر الذي جعل أمريكا والسعودية والدول المتحالفة معها في (عاصفة الصحراء) تتراجع عن دعم المنتفضين، والموافقة على السماح لصدام بسحقها. أما وصلت جيوش جورج بوش الأب إلى أبواب العاصمة وأوشكت أن تدخل بغداد وتسقط النظام؟ ولكن ألف حمد وألف شكر لله على فشلها. فلو نجحت لكنا عشنا تحت رحمة هادي العامري وقاسم سليماني ونوري المالكي وإبراهيم الجعفري وموفق الربيعي وعزت الشابندر ومشعان الجبوري ونعيم عبعوب وحنان الفتلاوي من ربع قرن بالتمام والكمال.
* ثم سقط النظام في 2003. وقبل سقوطه بسنوات كان الفريق الإيراني العراقي مرتبا ومجهزا، إيرانيا وأمريكيا، لتسلم السلطة، وإقامة نظام مناسب ومريح لإيران، بالدرجة الأولى، وليس للعراق ولا للعراقيين. ولولا سطوة النظام الإيراني لكانت أقيمت في العراق دولة مؤسسات وقانون ديمقراطية تعددية، ولكان إبراهيم الجعفري لم يحلم إلا بوظيفة طبيب في مستوصف، ونوري المالكي بوظيفة معلم أو رادود في حسينية. ولكنهما أصبحا قائدين للعراق اليتيم، وأمسكا بخناق أهله المطاريد، وامتلكا جيوشه، وأنفقا ثرواته كلها حتى أفلس، لا من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد وإعمار الوطن وإسعاد المواطنين، دون تمييز ولا استثناء ولا تهميش، بل من أجل تعميق الضغينة، وإيقاظ الأحقاد المذهبية، وإدخال الوطن بحروب المفخخات والاغتيال والتهجير.
* ويكفي أن أول ظهور علني لميشيا مسلحة في العراق، مرفقا بشعارات استفزازية عدوانية طائفية، كان لفيلق بدر وحزب الدعوة والتيار الصدري، في أوائل شهر مايو/أيار 2003. ومن يومها أصبح الانتقام والتآمر والتهميش والإقصاء والاعتقال والاختلاس سياسة الدولة الثابتة. وقد أطلق نظام الحكم الإيراني العنان لمليشاته العراقية
لاحتلال الشوارع والوزارات والمؤسسات، واحتكار القرارات والأوامر، وتعيين الوزراء والسفراء والمدراء والفراشين. وهل تُنسى عمليات التهجير الطائفي في بغداد وضواحيها والمدن المحيطة بها في 2005 و2006 وبعض 2007.؟
* ونسأل، ألم تتوقع إيران ووكلاؤها العراقيون أن تلجأ المكونات (المقموعة) المعتدى عليها إلى العنف لمقارعة العنف، وإلى الإرهاب لمواجهة الإرهاب؟ أم أنها أرادت ذلك وسعت إليه؟ وهكذا كان، ومن يومها والمفخخات السنية تلاحق المواطن العراقي في كل مكان.
* وقد حولت إيران الدولةَ العراقية إلى حسينية، لا شغل لجيشها وقوى أمنها سوى حراسة القوافل الماشية على الأقدام إلى النجف وكربلاء، دون انقطاع. أما تكاليف هذه المسيرات وحراساتها وتموينها بالأكل والشراب، ومرافقتها بمئات الفرق الطبية المُستنفرة فمستقطعة من البطاقة التموينية، ومن الخدمات الصحية والتعليمية والصناعية والزراعية والأمنية، والعياذ بالله.
* ومما لا جدال فيه أن قادة الفريق الإيراني، وعبد العزيز الحكيم أولهم، هم الفاعلون الحقيقيون الذين فرضوا على حلفائهم الأمريكان جريمة إلغاء الجيش العراقي العريق، بحجة الخوف على الديمقراطية الوليدة من ضباطه وجنوده الصداميين. وكان ممكنا إبقاؤه والمحافظة على وحدته والاستفادة من خبراته في حماية الأمن الوطني والسيادة، بعد تطهيره من غلاة البعثيين الذين يدينهم القضاء المدني والعسكري بجرائم ومخالفات. ولكنهم اخترعوا قانون (اجتثاث البعث) وطبقوه بكل انتقائية، بل جعله بعضُ المكلفين بتنفيذه وسيلة انتقام ممن قاتل إيران في الثمانينيات، وأداة ابتزاز وتجارة واختلاس.
* ويعرف الجميع، عراقيين وأمريكيين، أن جماهير الرمادي وتكريت وسامراء والموصل صفقت لسقوط النظام الديكتاتوري الذي ذاقت على يديه ظلما لا يقل عن ظلمه لغيرها من مكونات، ولم تطلق رصاصة واحدة في هذه المدن على قوات الاحتلال، أملا في أن يرحل الاحتلال سريعا ثم يبقى الوطن سالما وحرا آمنا مزدهرا يعوضهم عن أيام الجوع والخوف والظلم السابقة. ولكن أجواء الانتقام والتهميش والقمع والاضطهاد منحت البعثيين، وعصابات الزرقاوي وباقي شلة الإرهابيين فرصا ذهبية لاستثمار حالة الإحباط والإحساس بالظلم في الشارع السني. ويمكن القول إنها وحدها التي تتحمل مسؤولية ظهور مئات وألوف من متطرفين طائفيين إرهابيين سنة لا يقلون عن مليشيات قاسم سليماني عنفا ودموية وهمجية.
* سؤال آخر. حين انطلقت المقاومة (السنية) لمقاتلة الاحتلال ألم تقم إيران ونظام الأسد بإيواء (مجاهدي تلك المقاومة) من البعثيين الهاربين، و(القاعديين)، والطائفيين
المتطرفين الآخرين، وتمويلهم وتسليحهم، وإعادة إرسالهم إلى العراق لإفشال المشروع الأمريكي الذي أعلن عنه بوش الإبن أكثر مرة والداعي إلى تحويل العراق واحة تفيض ديمقراطية على دول المنطقة، وهو ما يهدد إيران وسوريا أكثر من غيرهما من دول القمع والقهر والعبودية والفساد؟.
* شيء آخر. ألم يتسبب الفريق الإيراني العراقي في جعل العراق مقصدا لكل من هب ودب من الإرهابيين العرب والأجانب الوافدين عليه من أرجاء الدنيا الواسعة، بعد أن كان اجتياز أحدهم لحدوده أشبه بالانتحار؟ ثم، هل فعلت حكومة بغداد الإيرانية شيئا جادا وحقيقيا لضبط الحدود وحماية أرواح العراقيين وأرزاقهم وكراماتهم؟، ثم ماذا قدمت لتجفيف الحاضنة التي وجد فيها البعثيون والقاعديون والتكفيريون والسلفيون ملاذا آمنا يمدها بالمال والسلاح والمقاتلين؟
* وحين حدثت الاعتصامات، وتأكدت إيران من أن داعش والقاعدة وعصابات عزة الدوري تتوالد وتتكاثر داخل مخيماتها، (هكذا زعموا) ماذا فعلت وفعل وكيلها المالكي لتنفيذ المطالب المشروعة للمعتصمين، وسحب البساط من تحت أقدام الذين يتسترون بشعاراتها ويتاجرون بمطالبها العادلة؟ ألم تقم قوات المالكي باقتحام المخيمات بدباتها، وتقتل وتعتقل المئات من المتظاهرين؟ وهل تُنسى مجازر الحويجة والفلوجة والرمادي وتكريت؟ وألم تطلق الحومة في العام المضي مئات من المعتقلين والمعتقلات لم تثبت على أحد منهم أية تهمة؟
* ألم تفتح الهيمنة الإيرانية على العراق أبواب جهنم على سوريا وشعبها وجيراتها؟ فحين خرجت مسيرات الجماهير في أغلب المدن والقرى والأحياء السورية مطالبة بالعدل والحرية والكرامة، سلمية ودون سلاح، وعلى مدى سبعة شهور، هل كانت داعش هناك؟، وهل قادت القاعدة تلك المسيرات؟
* وحين قابلها الديكتاتور بشار بمدافعه ودباباته وطائراته، ألم تضع إيران ترسانتها العسكرية وخزائنها المالية لدعمه وتشجيعه على مواصلة مجازره المنكرة؟ وعلى امتداد سنتين من مجازر الديكتاتور في سوريا هل كان داعش قد ظهر؟، وهل كانت النصرة تحاصر دمشق؟، ألم يكن ما يحدث في سوريا إرهابا طائفيا محضا يمارسه النظام وحزب الله وعصائب أهل الحق وعصابة أبي فضل العباس والحرس الثوري وقاسم سليماني ضد مدن وقرى سورية مسالمة آمنة؟. ومتى ظهرت الجماعات الإرهابية المسلحة السنية في حمص وحماة وحلب ودرعا والقصير والقلمون والغوطة ودمشق؟
* شيء آخر. ألم يسارع كبار الملالي المستشارين المقربين من الولي الفقيه إلى مباركة انقلاب الحوثيين على الدولة، واحتلالهم صنعاء، وزحفهم إلى باب المندب، واعتبروا ذلك نصرا إلهيا لدولة الولي الفقيه يضيف إلى امبراطوريتهم عاصمة عربية أخرى محررة من أهلها؟
* وشيء آخر أيضا. من سنوات وحكومة البحرين تحاول التفاهم مع المعارضة البحرينية الشيعية، وتعد بتنفيذ مطالبها المشروعة. ولكن ألم يكن النظام الإيراني حجر العثرة أمام أي حوار والمحرك الوحيد لعمليات الحرق والقتل والتمرد والابتزاز؟
* وهنا نصل إلى الحلقة الأخيرة من المسلسل. ونسأل، من الذي سهل لداعش الانتشار في سوريا، ومن تركه يحتل مدنها وقراها بيسر وسهولة؟ وفي العراق من الذي سحب جيوشه الجرارة من الموصل ليحتلها داعش بـ 300 مقاتل ويستولي على أحدث أسلحتها وعتادها وأموالها؟ ومن الذي هرب من الرمادي وترك لداعش قناطير مقنطرة من السلاح الأمريكي والإيراني المتطور الحديث؟
* وحين قامت مليشيات الحشد الشعبي بتحرير مدن في ديالى وصلاح الدين من داعش، ماذا حدث، وكيف تصرفت مع أهلها، وهل سمحت لهم بالعودة إلى منازلهم، أم بقي الحال على حاله، واستُبدل الاحتلال الداعشي باحتلال الجارة العزيزة إيران؟
* وحين هرب الأنباريون، بمئات الألوف من داعش، هل سمحت لهم إيران بدخول عاصمتهم، عاصمة جميع العراقيين؟ هل يسأل القاريء المعترض نفسه، لماذا؟
صحيح أن العراق وسوريا ودول المنطقة الأخرى لم تكن جنان الله على أرضه، ولكنها أصبحت خرابة محترقة، من أول أيام النصر الإلهي الذي جاء بالخميني على رأس الوليمة. أليس كذلك؟