الانقلاب العراقي على المعممين

الانقلاب العراقي على المعممين
آخر تحديث:

بقلم: ابراهيم الزبيدي

قبل البدء بكتابة هذا المقالة ينبغي، للأمانة ، أن نعترف بوجود رجال دين شرفاء في العراق ورثوا عمائمهم أباً عن جد، وعُرفوا وعُرف أباؤهم وأجدادُهم بالاستقامة والنزاهة والشرف الرفيع. ومنهم من كان مجاهدا شجاعا ضد الظلم والاستعباد والاستعمار، وتحتفل الأجيال المتعاقبة بسيرته العطرة ولا تنساه.

أما الذين تعنيهم المقالة هنا فهم الإسلاميون الذين تسلموا السلطة في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق، 2003، سواء الذين يضعون عمامة بيضاء أو سوداء أو خضراء على رؤوسهم، أو يخفونها في قلوبهم وعقولهم، فأساءوا لأنفسهم ولأولياء أمورهم الدواخل والخوارج، وللدين.

فقبل أن يتسلم قادة حزب الدعوة وشقيقاته وأشقائه في البيت الشيعي حُكمَ العراق باسم الدين وباسم مظلومية الشيعة، بتنسيبٍ مُحدَّد بالأسماء والمناصب من المرشد الأعلى الإيراني،والمرجعية في النجف، وبالتنسيق والتفاهم الكامل مع إدارة قوات الاحتلال الممثلة بالحاكم المدني بول بريمر، كانت الملايين التي انتفضت في تشرين الأول 2019 مشدودةً بقوة إلى المرجعيات والمؤسسات والقيادات الدينية، وتغامر وتواجه احتمال الاعتقال أو الاغتيال أو الاعتداء وهي تزحف، بالمئات والألوف، لتصلي خلف هذا المعمم وذاك، وهي مؤمنة بأنه ممثلُها المؤتمن الوحيد الموكَّل من الله ورسوله وآله بقيادة الطائفة إلى شاطيء الأمان.

حتى لم يكن يخطر على بالٍ أبدا أن ينفَضَّ عنهم أحدٌ من مقلديهم، وأن يهجر مجالسهم، ويلعن أيامهم، ويمزق شعاراتهم، ويحرق مقرات أحزابهم، في يوم من الأيام.

وفي انتخابات 2005، و2010، وحتى في انتخابات 2014 التي أعقبت انسحاب القوات الأمريكية من العراق، كانت الجماهير العريضة ما تزال تمنح أصواتها لمرشحي أحزاب البيت الشيعي، ولسنة الحكومة، أملا منها في أن يَفوا بعهودهم، وينفذوا وعودهم، وأن يعدلوا ويُنصفوا ويُعوضوا أتباعهم ومقلديهم، على الأقل، إن لم يشملوا بعطفهم ورعايتهم باقي العراقيين، عما عانوْه من فقر وبطالة وشحة في الغذاء والماء والدواء.

وإذ يأتي، اليوم، أصحابُ العمائم البيض والسود والخضر، في حسينياتهم وإذاعاتهم وفضائياتهم، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، متذمرين مستغربين وشاكين، بمرارة، مما تتعرض له هيبة المؤسسات الدينية العراقية من امتهانٍ، وقلة ثقة، وعدم احترام، فإنهم وحدهم المَلومون.

وليس من العقل ولا العدالة أن يُحملوا المجتمع، وحدَه، مسؤولية ذلك، ويتهموا شباب الأجيال الجديدة بالانحراف الخلقي، وبالابتعاد عن الدين، بل يجيز بعضُهم استخدام القوة لردعهموردهم إلى ما كانوا عليه من ولاء سابقٍ لأسيادهم المعممين، متهمينَهم بالعمالة لقوى الكفر والإلحاد الخارجية، وبالعقوق وقلة الأدب وسوء التربية وفساد العقول. 

وكان الأحرى بهم أن يعترفوا بأن الذي جعل العراقيين عامةً، وأبناءَ الأجيال الجديدة وبناتهاخاصةً، يرفضون سطوة المعممين وشعاراتهم وخطاباتهم ومواعظهم وفتاواهم هو ما فعله المعممون أنفسُهم بأنفسهم، وبالدليل الملموس والبينة المرئية الثابة التي لا تحتاج إلى كلام.

فقد كان فسادُهم أكبر من قدرتهم على ستره، فافتُضحوا، وأصبحوا ضحاياه، لينطبق عليهمالمثل الشعبي (اللقمة الكبيرة تخنق بلاّعها).

فمن أبسط الأمور العراقية، اليوم، رصدُ ظاهرتين مهمتيْن، الأولى حالةُ الثراء الفاحش المستحدَث والبذخ الفاضح التي يعيشها رجال السلطة المعممين واُسَرُهم وأقاربُهم ومحاسيبُهم، بعد أن كانوا فقراء بائسين يرتزقون في دول اللجوء بالفُتات من المساعدات والإعانات.

إلى درجة أن أغلب عمليات الاختلاس الكبرى والسرقة والاحتيال والسطو على أملاك الدولة وعلى قصور رجال العهد السابق، وتهريب الأموال إلى الخارج، ثبتَ بالدليل القاطع الملموس أن أبطالها المعممون المتنفذون، ومن تبعهم وتحلّق حولهم من السماسرة والمنافقين وخدم الدنانير.

وكما كثر في زمن النظام (العلماني) السابق حمَلةُ ألقاب التكريتي والدليمي والعمري والبكري، بغرض التكسب والابتزاز والاستغلال، فقد كثر في زمن الحكم (الإسلامي) الحالي حمَلةُ ألقاب الموسوي والحسيني والعلوي، وبغرض التكسب والابتزاز والاستغلال، أيضا، حتى لم يعد أحدٌ يستطيع أن يُفرق بين المدعي المزيف منهم وبين صاحب النسب الأصيل.

وليس هذا حال المعممين الشيعة مع جماهيرهم، وحسب، بل إن معممين سنةً كباراً يتبوأون مراكز قيادية دينية عليا في الطائفة سقطوا في الاختبار، حين تحولوا إلى وعاظ مصفقين ومباركين للحاكمين، وعبيدا للمحتلين، وأصبحوا جزءً من حكومة الفساد والانتهازية والانحراف.

يقابلها حالةُ فقرٍ وعوز وقلة خدمات وبطالة وظلم يعيشها المواطن العراقي في مدنٍ وقرىً ومناطقَ كانت، إلى عهد قريب، مشهورة بالتدين والاحترام الكامل الثابت للمرجعيات والمؤسسات والقيادات الدينية، بلا حدود.

وما يمكن تأكيده هنا هو أن ثورة الأجيال الجديدة من العراقيين لم تَطُل المعممين الممسكين بالسلطة وحدهم، بل إن نيرانها اقتربت كثيرا من المرجعيات العليا، نفسها، بسبب تهاونها وصمتها عن فساد الفاسدين.

بعبارة أوضح، إن الحكام المعممين قد ألحقوا، بفسادهم، ضررا كبيرا بالعلاقة بين المواطنوالمؤسسة الدينية، بل خلق هوة سحيقة بين شباب الأجيال الجديدة وبين الدين الإسلامي، نفسه، إلى حد بعيد.

وليكن معروفا جيّداً للمعممين الشاكين من فقدانهم الهيبة والاحترام أن المواطن العراقي المقهور والمسروق والمغشوش والعاطل عن العمل قد أفاق أخيرا، وأصبح مؤمنا بأن الله ليس في حاجة، للدفاع عنه ولنشر دينه، إلى شللٍ من الكذابين المزورين الذين لا يأخذون من كتاب الله إلا ما يُرضي مصالحهم، ويُشرْعن لهم مظالمهم وسرقاتهم، فقط لا غير.

والخلاصة، هي أن ما يشهده العراق اليوم ليس سقوطاً للإسلام السياسي العراقي، فقط، بل بدايةً للنهاية الأبدية للخلافة الإسلامية (الشيعية) في طهران، وللخلافة الإسلامية (السنية)العثمانية الجديدة في أنقرة، ولملحقاتها، حزب الله وبدر وعصائب أهل الحق وباقي شقيقاتها في الجانب الشيعي، وداعش والقاعدة والإخوان المسلمين، في الجانب السني، أبى من أبى وشاء من شاء.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *