الثقافة: محاولة لتعريف عربي

الثقافة: محاولة لتعريف عربي
آخر تحديث:

د. كريم شغيدل
لقد ارتبطت كلمة (ثقافة) عندنا بممارسة نشاطات ثقافية معينة وأعمال فردية وجماعية محددة واقترنت بالقابليات والملكات والمواهب الفردية أكثر من اقترانها بالتجليات والتجسدات الاجتماعية، وقد كان الأمر خاضعاً على طول المسار لإسقاطات المعنى المعجمي على المفهوم والمعنى الذي استعيرت به الكلمة بعد الترجمة، فكلاهما ارتبط بمدلول محدد، أي مدلول نمطي يفسّر ظاهرة أو يشير إلى مجال محدد، وليس مفهوماً. وسنحاول هنا استنتاج تعريف على وفق المعاني المعجمية لكلمة (ثقافة) في العربية، فـ(ثَقَفَ وثَقِفَ) بفتح القاف وكسرها تعني من جملة ما تعنيه، استناداً لمعجم مقاييس اللغة، إقامة اعوجاج الشيء، (عمل متقن لجعل الشيء مناسبا للاستعمال، ويحمل هذا المعنى سمة مادية مرتبطة بأداة تسمى (الثقِاف) وثقافة لعمل يدوي تقليدي) والمعنى الآخر اكتساب المرء علماً ما على استواء (امتلاك الإنسان موهبة في اكتساب الشيء، وإتقان تعاطيه، ويحمل هذا المعنى سمة معنوية) أما ّالمعنى الثالث فهو الظفر “فإن قيل: فما وجه قرب هذا من الأول؟ 
قيل له: أليس إذا ثَقِفهُ فقد أمسكه وكذلك الظافر بالشيء يمسكه، فالقياس بأخذهما مأخذا واحدا”، فهذا المعنى الأخير ذو سمة مشتركة مادية- معنوية، الظفر بالشيء إذا أمسكنا شيئاً مادياً والظفر بشيء معنوي اكتسبناه، يظفر بالعدو والصديق والطريدة وبالمرأة المناسبة، كما يظفر بالعوج ليقوّمه، ويظفر بالعلم بالشيء إذا ما حظي به واكتسبه، وطبعاً مع كل ظفر تكمن غاية ومنفعة تجعل الشيء أو الإنسان أو عملية الظفر ذاتها شيئاً متميزاً وذا قيمة ، وعلى وفق هذا ألا نستطيع اشتقاق تعريف بسيط للثقافة على أنها كل ما يظفر به الإنسان ليكون متميزاً ويكون عمله ذا قيمة، أو هي كل ما يظفر به الفرد لتكون حياته ممكنة مع ما يظفر به الآخرون، أو هي ما يظفر به الفرد مما تظفر به الجماعة من المجتمع لتقويم سيرة الحياة وجعلها ممكنة ، أي ما يجعل حياة الفرد ممكنة ومتوازنة في مجتمع ما، وعلى هذا المنوال يمكن القول إنَّ الثقافة هي ما يظفر به الإنسان من قيم ومعتقدات وتقاليد وأعراف وأحكام ومعايير وخبرات وأخلاق، وما يشترك به من طرائق في التفكير والتذوق وما يتميز به من ملكات، وكل ما يجعل لوجوده معنىً في مجتمع ما. كما يمكن القول إنها السمات التي نتجت عمّا ظفر به الفرد من مشتركات وتمايزات نتيجة لوجوده في مجتمع ظفر بمشتركات وتمايزات عبر حقبة تتصل بتاريخ، (وتعني الحقبة التي يعيشها الفرد في مجتمع ما) أو هي نسخة الفرد من هوية الجماعة ونسخة الجماعة من هوية المجتمع، وبإسقاط المعاني المعجمية على المفهوم بتأملات بسيطة يمكننا استنتاج ثلاثة محاور: العمل التقليدي، اليدوي أو الاجتماعي، الذي اعتاد عليه المجتمع في تهيئة الأدوات للاستعمال الفعّال، وهو خبرة اجتماعية. والعمل الفردي، الذاتي الذي يكتسبه الفرد، ملكة أو تعليم وهو خبرة  فردية. 
والعمل المشترك، أي الظفر بالعدو، و قد يؤول المعنى هنا إلى معنى الصراع الثقافي مع الآخر، أو الظفر بالمختلف والاصطراع معه، أو الظفر بما هو ضار أو مخل بالوجود ومن ثمَّ القضاء عليه، وهو خبرة اشتباك مع الآخر.واستناداً لهذه المحاور يمكن استنتاج تعريف ذي ثلاث طبقات أو مستويات لتكون الثقافة: مجموع الكل المركب المكوّن من الظفر بالخبرات الفردية والاجتماعية، وقد يعني الحوار مع الآخر، كما يعني الهيمنة الثقافية وإقصاء ثقافة الآخر المختلف، في ظل المعيارية الاجتماعية أو الجماعية أو الفردية. 
بقي أن نشير إلى المدلولات الحضارية التي تنتجها عملية إسقاط المعاني المعجمية على مفهوم الثقافة، فمعنى الظفر بعلم ما هو مدلول ثقافي، لكن عملية ثقِافة الرماح وغيرها، أي تهيئة أدوات الحرب وعملية الظفر بالعدو (استناداً للمعنى القرآني) كلاهما ترمي إلى مدلول الهيمنة والسيطرة، وهما فعلان حضاريان يتضمنان معنى الأيديولوجيا، وهذا ما يؤكد حقيقة التزاوج الدلالي بين مفهومي الحضارة والثقافة ولكن بصورة ليست مطلقة، بينما ذهب بعض الدارسين إلى وصفهما بالنقيضين.
لقد قدّم (علي عزت بيجوفيتش) فصلاً لتوضيح فكرته عن الثقافة مقارنة بالحضارة، وذلك في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” إذ ركّز على تناقض فكرتي الحضارة والثقافة تناقضاً حادّاً، محددا لكل منهما مساره المتعارض مع الآخر تاريخياً ودينياً وأخلاقياً، ذلك أنَّ “الحضارة تعلم، أما الثقافة فتنور، تحتاج الأولى إلى تعلم، أما الثانية فتحتاج إلى تأمل”. ويذهب إلى إنَّ الثقافة هي الفن الذي يكون به الإنسان إنساناً أمّا الحضارة فهي فن العمل والسيطرة والصناعة، الأولى تعني الخلق المستمر للذات، والثانية تعني التغيير المستمر للعالم، ومن هنا ينبع التضاد بين الإنسان والشيء ، واستناداً للمنطق الداخلي للأشياء كما يقول بيجوفيتش “يتوازى كل الخلق والثقافة والفن والأخلاق مع الدين”، بمعنى آخر إنَّ الثقافة مؤمنة والحضارة ملحدة، إذ ليس ثمة علاقة مشتركة بين العلم والثقافة من حيث البعد  الإنساني. 
ويحدد (زكي الميلاد) المنطلقات الأساسية لرؤية بيجوفيتش في أمرين: “الأمر الأول ويتصل بالموقف من الإنسان، والأمر الثاني ويتصل بالموقف من الأيديولوجيا”، ونرى أنَّ بيجوفيتش قد أسقط النظرة المادية لتفسير التاريخ على الحضارة في ضوء النظرية الماركسية اللينينية، وأسقط النظرة الإسلامية على الثقافة ، إذ استعار التعارض بين المادية والمثالية ليصوغ فكرة التعارض بين الحضارة والثقافة ، وقد بنى بيجوفيتش نظريته على ثلاث نظرات أساسية هي التي حكمت إنتاج الأيديولوجيات والفلسفات والتعاليم العقائدية، وهذه النظرات هي: النظرة الدينية ويقصد بها المسيحية التي توازي عنده مبدأ الضمير، والنظرة المادية التي تقابل مبدأ الطبيعة، والنظرة الإسلامية التي توازي مبدأ الإنسان، وعنده أنَّ النظرة المسيحية تبدأ من وجود الروح، وتبدأ المادية من وجود المادة، بينما تبدأ النظرة الإسلامية من تزامن وجود الروح والمادة، لذلك فهي الصيغة الأكثر سموّا للإنسان.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *