الكتلة والفراغ بين الكون الحقيقي والكون السردي

الكتلة والفراغ بين الكون الحقيقي والكون السردي
آخر تحديث:

د. ثائر العذاري

يصعب على الفكر البشري تفهم العلاقة بين الكتلة والفراغ وهما المكونان الرئيسان للكون، فالكتلة لا تمتل سوى نسبة ضئيلة من الفراغ الكوني لا تكاد تذكر، ومع ذلك فهي المكون الوحيد المفهوم للوجود وهو ما يلفت تركيزنا، فلا يمكننا تخيل كون بلا مادة، بينما لا نستطيع فهم فكرة فراغ لا نهائي، وإذا تصورنا أن للكون نهاية هي حافته  سيحيرنا السؤال عما وراء تلك الحافة إن لم يكن الفراغ، ما يصيبنا بالقلق الوجودي.
ولا يختلف الأمر كثيرا في السرد، إذا ما عددناه صورة مصغرة للكون، فكما تتشكل المادة في الفراغ الكوني بشكل أجرام سماوية منها الأرض وما عليها ومن عليها يتشكل الوصف في الرواية والقصة في فضاء النص، ومثلما تشغل المادة تلك النسبة الضئيلة من حجم الكون يشغل الوصف النسبة الأقل من النص السردي، ومثلما تكون المادة العنصر الكوني الوحيد الذي نستطيع تصوره يكون الوصف الأداة الوحيدة القادرة على صنع صورة سردية نستطيع 
تخيلها.
في الرواية يكون أكثر النص الروائي معنيا برسم أفكار السارد والشخصيات ومشاعرها ومواقفها وهذه كلها عناصر لا صورة مادية لها، ولكي نشعر بها لا بد أن يحتويها كيان مادي نستطيع تصوره، وحين لا يهتم الروائي بوصف الشخصية الحاملة للفكرة سيضطر القارئ إلى إحلال الفكرة في ذهن شخصية يرسم هو ملامحها، وهكذا يكون في ذهن كل قارئ شخصية مختلفة عن غيره من القراء وكلها مختلفة عن الشخصية التي كانت في ذهن الروائي. 
وكلما زادت كمية الوصف في الرواية اقتربنا من شكل الصورة الذي أراده الروائي، فهو حينها يقوم بتشكيل المادة في كونه السردي كما تتشكل في الفراغ الكوني.
حين نحاول أن نتصور ذهنيا صورة الكرة الأرضية لن نستطيع فعل ذلك من غير تصور حدودها التي تفصلها عن الفراغ، وهذا يعني احتلال الفراغ جزءا من تصورنا ذلك سواء أكان له شكل أو لون أم كان محض فضاء. ومن هنا تأتي أهمية وصف المكان الذي يضع الروائي فيه شخصياته، فالمكان هو الذي يجعل تشكيل الشخصية واضحا ويرسم حدوده، بل ينعكس أيضا على مزاج الشخصية وفكرها
، فوضع شخصية ما في غرفة خافتة الإنارة مشققة الجدران سيجعلها مختلفة عن وضعها في غرفة مضاءة بألوان مبهجة وجدران مزينة بديكورات مبهجة. فكثيرا ما يلجأ الروائيون إلى العناية بالخلفية المكانية التي يستطيعون من خلالها التأثير بمزاج القارئ وتسريب شعور الشخصيات إليه خلسة من غير التصريح بها.
يختلف الأمر تماما حين ننتقل إلى القصة القصيرة، ففي القصة لا وجود لمتسع كاف للوصف، وهذا ما يجعلها مشروعا مشتركا للتشكيل بين القاص والقارئ، فقد يذكر القاص أسماء الأشياء فقط (كرسي، طاولة، قدح شاي، فستان…..) لكن الأكيد أن الصور التي سيستدعيها ذهن القارئ مختلفة تماما عما في أذهان الآخرين، وحين لا يذكر نجيب محفوظ من صفات شخصيات (الطاحونة) سوى أسمائها وانتماءاتها الطبقية سيدفع القارئ إلى ملء هذا الفراغ الكوني بمادة يتصور هو تشكيلها بما لا يتعارض مع الأسماء 
والانتماءات:
“كانوا ثلاثة قيل إنهم خرجوا إلى الدنيا في يوم واحد، وحديث الأعمار يبوح بأسراره في حارتنا عند الحوار بين الأمهات حتى بلغوا السادسة. عند ذاك حجزت البنت لتصبح خفية وراء الجدران واستمر الصديقان في اللعب والتذكر.”
نعرف فيما بعد أن أسماءهم رزق وعبده وظريفة، فأما عبده فكان غنيا وهو صاحب الطاحونة وأما رزق فكان معدما ثم عمل لدى عبده، وأما ظريفة فهي الفتاة التي كان يحلم كل من الصديقين بالتزوج بها.
كلمات مثل (حجزت، حارتنا، وراء الجدران….) ستلعب دور الشرارة في مخيلة القارئ، فهي عناصر ستولد صورا أولية للمكان والشخصيات، ثم تشرع هذه الصورة بتوليد سلسلة من التصورات بالاستعانة بتراكم الأفعال المكونة للقصة. وعند النهاية يكون كل قارئ قد شكل كونه السردي الخاص الذي يصعب جدا أن يكون مطابقا للكون الذي كان في ذهن نجيب محفوظ وهو يكتب قصته. وهذه هي الفلسفة التي تقوم عليها نظرية القصة القصيرة بحسب فهمي، فاختلاف تصور تشكيل الكتلة والفراغ سيقود حتما إلى اختلاف القراءة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *