المثقف العراقي لم يتعدَّ عتبة التفسير من دون أن يكون فاعلا

المثقف العراقي لم يتعدَّ عتبة التفسير من دون أن يكون فاعلا
آخر تحديث:

بغداد/شبكة أخبار العراق- على الرغم من تخصص الدكتور محمد عطوان في العلوم السياسية، وحصل فيها على شهادة الدكتوراه، إلا أنَّ اهتمامه بالثقافة والشأن الثقافي، جعل منه كاتباً مختلفاً، فجمع بين العلوم السياسية والسياسة الثقافية، فتمكن من الخروج بدراسات فهم في ضوئها العلاقة بين المثقف والسلطة، وبحث في البيئة الثقافية العراقية، وتمظهراتها عبر التحولات التاريخية في العراق.ولهذا، فقد انشغل عطوان بموضوعات الدراسات الثقافية ومنهج ما بعد الكولونيالية في العراق، فصدر له خلال السنوات الماضية: رمزية النبي في رسوم الكاريكاتور 2010، والاستعمال الأيديولوجي للثقافة 2017، وصور الآخر في الفكر العربي 2017. ويعكف حالياً على إنجاز كتاب بعنوان: تحوّلات السلطة في المدينة العراقية الحديثة..

* تشهد الدولة العراقية منذ ما يقرب من المئة عام على تأسيسها تحوّلات دائمة، بدءاً من الانتداب البريطاني وليس انتهاءً بخلافات الأحزاب الحالية، ما الذي فعلته هذه التحوّلات بالعراقي، مواطناً وسياسياً؟

–  يبدو لي أن الحديث عن تحوّل بنية الدولة العراقية وتطوّرها هو حديث مرتجى عن إمكانية التحوّل الذي يمكن أن يطول المدينة العراقية أيضاً بصورة دقيقة. فالمدينة بالمحصّلة ليست سوى استعارة لتلك الدولة بكل مستلزماتها القانونية والمؤسساتية، وبكل ما تقتضيه من حقوق وواجبات للأفراد وللجماعات. ودائماً ما ينبغي أن يُميّز المدينة أو أيّ حيز آخر، من وجهة نظري، من أجل إدراك فكرة الجدل أو التحوّل، هو مقدرتها الخلّاقة على إدارة التنوّع والتعدّد وليس الاقتصار على السعة والكثافة بمعناها المادي فحسب (ثمّة وصف شائع يقرن المدينة بمعيار السعة والكثافة السكانية). بهذا المعنى فإنَّ معاينة حركية الدولة هو نوع من معاينة حركية المدينة القائمة على الجدل أيضاً. ولا يمكن للمدينة أن تكون مدينة ما لم تحفل بالتعدّد.

والسؤال هو هل كانت الدولة العراقية جزءاً من صيرورة بنيوية تاريخية استوعبت إمكانية تشكّل العقل الاجتماعي فيها أم كانت مجرّد بنية ميتافيزيقية مؤجّلة أو مجرّد مقولة لغوية لم تقترب من حقيقة نموّها التاريخي كما يجب؟

الحقيقة، لم تنجح النخب الثقافية والأدبية المؤسِّسة في تحبيك مقولة “الوطن الجامع” أو “دولة الأُمة” برأسمال شعبي ثقافي مشترك، إذ سرعان ما بدأت الدولة تسفر عن عناصرها المتنافرة، لذلك لم تُوفَق من الناحية المؤسّسية في بناء مجال سياسي وثقافي واجتماعي هووي مُتعدِّد يستوعب حقيقة التمايز ما بين المكونات الفرعية المتعددة.

*  لماذا هذا التنافر البنيوي في المجتمع العراقي؟

–  لأنَّ القيم المحلية في العشرينيات والثلاثينيات بقيت قيمَاً تقليديةً لم تتغيّر عمّا سبقها إلّا بنحوٍ طفيف، وحتى التطوّر اللافت في مجال التشريعات الدستورية الذي حفلت به الدولة وتبنّته، إنّما كان يتعارض مع أي تطور آخر لها إن كان اجتماعياً أو فلسفياً. وتأسيساً على عدم التوافق هذا في المستويات الحقوقية والاجتماعية والفلسفية بقيت الهويات الفرعية نفسها، على تعدّدها، تتخيّل الوطن الجامع بمنظورات تجزيئية طائفية وعِرقية مختلفة، متغافلةً بذلك مساعي التوحيد القائمة على افتراض تحديثي للدولة ناف عمره على الثمانين عاماً.

باختصار شهد المجتمع المحلي العراقي منذ ثلاثينيات القرن العشرين مظاهر تمدين لفترات زمنية قصيرة، لكن هذه المظاهر لم تُصِب الجوهر المحلّي بالتمام، ولم يسعها الاستجابة لما يُطلق عليه تمرحل البنى الاجتماعية في التاريخ، فبدا حضورها الوظيفي في ضمن بنية الثقافة الرسمية والعقل السياسي سطحياً، فكان وجود تلك المظاهر التحديثية يتحدّد بحدود ما تتطلّبه مقتضيات السلطة وإدارتها لتأمين امتيازات فئة محددة بعينها من الأفراد حيالغيرهم.

*  يعيش العالم الآن صراعات مع قوى مجهولة، بدءاً من الدين وانتهاء بالرؤى الثقافية الغائمة، كيف تقرأ العقلية الثقافية التي نعيش فيها وسط هذه الصراعات؟

–  المراد بالعقلية الثقافية في هذا التوصيف هو؛ الرأسمال الرمزي المتحصّل من الخبرة والريادة والتراكم والتمثيل التاريخي في لحظة كانت للدولة أن تمر بها.. وبالضرورة فالعقلية الثقافية كناية عن العقل داخل السلطة اليوم بما يحتكم عليه من مرجعيات فكرية وفلسفية… إلخ، وبما يناط به من أدوار وظيفية تلائم اشتراطات الدولة الحديثة، لكن في إطار هذه الدولة مع افتراض نمو الهويات الاجتماعية التقليدية وتدرّجها في مراقي التمدين؛ نما خطابٌ سياسي قوامه أفراد ينحدرون من أصول ريفية وقروية، يُمثّلون الصورةَ الصريحةَ للأيديولوجية السياسية الجديدة والشريحة المؤهّلة للصعود والانتشار في تفاصيل المركزالمديني.

لقد أخذ هذا الخطاب يتكثَّف بوساطة الخلفيات السوسيولوجية لأولئك الأفراد والجماعات أيضاً؛ الخلفيات الحاملة لقوانينها وسننها الخاصة، على الرغم من دخولها المشهد المديني الذي أسهم في تكوينها بكيفية ممكنة. 

فما كان أمام هذه السوسيولوجيات “الوافدة” غير بلوغ المراتب العليا داخل الأجهزة الإدارية والتربوية بسهولة؛ وتأتّى لها ذلك فعلياً بسبب عملها خارج التقاليد المدينية، أي تدرّجها الإداري والتربوي الرسمي على مدى السنوات الستين الماضية في الأقل. فمن هذه الهويات ظهرت النُخَب، وأصبحت الأدوات الرئيسة للحكومات ضمن سياسات ما بعد الدولة الوطنية في 2003؛ وجرى توظيفها أيديولوجياً، وتعزّزت سياساتها، وأعفيت من مجابهة الحكومات في ظروف من النفعية المؤسساتية المتبادلة ولغة الشعارات المدافعة عن إمكان نشوء وطن خيالي من نوع خاص.

*  سعت الحكومات العراقية المتعاقبة لتدجين المثقّف العراقي، وجعله تابعاً لها، كيف نفهم ما يعيشه هذا المثقف ضمن مفاهيم الخطابات الثقافية والسياسية؟

–  كان المنظور التقليدي للخطاب النخبوي يدّعي احتكار البلاغة الجماهيرية العامة، لأنّه كان يُوهِم بحقيقة إثبات مثل هذا الادعاء في الواقع. لكن المنظور الاجتماعي الجماهيري نفسه أخذ بما يحمل من نزعة شعبوية، يتمرّن (بالاستناد إلى خبرة الإنتاج والتلقّي التي عكستها ظروف الناس الاجتماعية في العبادة والعمل والأسرة والتعليم والشارع وتطوّر وسائل الاتصال) على تحويل المنظور الذي كانت تحتكره القلّةُ إلى منظور شعبوي بالمجمل؛ وأنَّ سلطته بدت سلطة “الكل”، مع استدراك أنَّ منظور القلّة السابق لم يعد منظوره بالمعنى العام للعبارة، لكن تقلّص تدريجياً وتراجع لجهة تَشكُلهِ فيه. 

بهذا المعنى لم يعد منظور القلة السابق ذاته قادراً على فرض سلطاته، وأنَّه تراجع لجهة حضور الجمهور الذي راح يتحدّث عن امتلاكه لهذه السلطات، ويتداول مفرداتها على لسانه، ويدافع عن مضامينها كما لو أنَّها خطابه المستعاد. وعليه لم يتبقَّ، نِسبياً، لمنظور القلة من باقية بصعود المنظور الشعبوي الجديد.

*  يحاول المثقف العراقي اليوم أن يبتكر هوامشه الخاصة وسط جائحة كورونا، لكننا لا نستطيع التكهّن بما سيكون عليه العالم بعد سنة واحدة مثلاً، ولا ما الذي سيحل بعقلياتنا الثقافية!

–  بناءً على ما تقدّم لا نستطيع أن نتحدّث في هذا السياق المفصلي عن المثقف بمعناه التقليدي أو عن أيّة صيغة معينة تَمتُ لفاعليتهِ السابقة بصلة؛ والسبب في ذلك واضح ويخص بدرجة أساس طبيعته التكوينية، فالمثقف العراقي منذ ٢٠٠٣، وإن كان حاضراً في فعاليات مدنية معينة، فإنَّه لم يكن بحال من الأحوال فاعلاً في بنية الحراك الاجتماعي العام أو مساهماً رئيساً في التحولات الثورية العنيفة للمجتمع المحلي أصلاً، هذا من جهة.. ومن جهة أخرى فإنَّ المعطى الوبائي الحالي- كتحدٍّ مادي جديد- لم يتجلَّ، بما يمكن فهمه، بمعزل عن المعطيات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالعالم اليوم، ومن ثم يعسر على المثقف إدراك حقيقة ما يحكم هذا المعطى، فهو وإن كان العمل الذهني وإنتاج الأفكار الفريدة دأبه الكبير، إلّا أنّه غير قادر على إدراك حقيقة ما يجري في ظل الحاجة الماسّة الى المعلومة الأمنية والسرية واللوجستية المتخصصة.. عند هذه الحدود الضيّقة الواصفة لقابلية المثقف لا نستطيع أن نقول شيئاً سوى أنَّ وظيفته تقف عن حدود التفسير فحسب، وليس التغيير أو الفاعلية الوظيفية الثورية المرتجاة، فالمثقف ينتهي دوره هنا في مكان خارج نظام الفاعلية المدنية الرسمية وسواها.

قُبيل حدث كورونا، وفي غضون أحداث تشرين تحديداً غابت مقدرة المثقف الفعلية في الكشف عن المشكلات المستعصية واستيعاب ما يجري من الأحداث، ومن ثم أصبح من البديهي في ضوء ما هو فيه ألا يستجيب إلى فكرة الحدث الوبائي إلّا من زاوية الفرد العادي الأعزل والمستهلك أيضاً والمتابع للأحداث والنتائج ليس إلّا.

*  بعد جائحة كورونا، دخلت مصطلحات ومفاهيم جديدة كانت بعيدة عن ثقافتنا، حتى بطرائق الإنتاج الثقافي. إلى أيِّ حدٍّ يمكننا إنتاج ثقافة جديدة تواكب كل هذه التغيّرات في العالم؟

–  لا شكَّ في أنَّ عالم ما بعد كورونا سيأتي بتحدّيات جديدة لم يعهدها الناس من قبل.. ومعلوم أنَّ هذه الأزمة وما تعكسه من تأثير سلبي على البعد الاقتصادي عالمياً ومحلّياً ستؤثّر بشكل كبير على الأبعاد الاجتماعية والأمنية والنفسية وسواها.. 

وفي العراق تحديداً إذا ما أردنا أن نسوقه مثالاً على ما يجري، فإنَّ الإدارة السياسية فيه لم تتحسّب لمثل هذا الحدث المفاجئ والصادم، وكشفت أوّل ما كشفت عنه الآن عجزها عن إدارة ملف رواتب الموظفين المرتبطين بالقطاع العام إن لم نقل إنَّها واجهت الصعوبة الرئيسة في إدارة ملف الصحّة أيضاً، فواحدة من المشكلات الضرورية المتعلّقة بظلال الجائحة؛ التأخير الذي رافق أزمة تأمين رواتب الموظفين بسبب خلو الخزينة العراقية العامة من الرصيد المالي الكافي لتمكين المعيش اليومي للناس بنحوٍ ممكن.. ويرتبط ذلك بمستقبل سوق النفط، وهو القطاع الريعي الوحيد الذي يعتمد عليه العراقيون في عيشهم، ولعلَّ الأشهر المقبلة، إذا ما استمر هذا الحال على ما هو عليه، ستشهد تحدّيات جديدة على مستويات الأمن الاجتماعي والجريمة والتعدّي على المال العام… إلخ. فما كان سبباً مبرّراً لخروج الناس على الحكومات بسبب أدائها في الأيام الماضية أضيف اليه ما جاء به وباء كورونا كسبب طبيعي مكمل لسلسلة الاخفاق الحكومي على الصعد كافة..

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *