المعرفة وسلامة الأداء

المعرفة وسلامة الأداء
آخر تحديث:

يــاســيــن طــه حــافــظ

يبدو امراً  بديهياً أن يعلم الانسان ثم يعمل وان يعلم ثم يقول. فالالمام، ان زاد صار معرفة وعلماً، هو المنطلق السليم للعمل وهو الحصانة لسلامة الأداء. هذا امر معروف ، لكن ما أردته هو تحديداً مايخص  اهتمامنا الادبي الكتابي، وعملنا في  التأليف، لأن المعنيّ بالمجتمع والمهتم  بالفلاحة والزرع، لايستطيع اصلاً  العمل بغير معرفة وإلا تعثر وساءت النتائج في تهيأة المضمون، وإن تدرّجَ، يفترض الإلمام بالموضوع إن كان خارج تخصصنا: حدثاً سياسياً، كارثة طبيعة، مشروعاً زراعياً، تاريخ مدينة، او شخصية وطنية  بمعرفتنا، لا نخطئ ولا نشيع خطأ ونواجه استنكاراً مما نقول  .
قد لا تكون الاخطاء فادحة، ولكنها اخطاء.  أحد كتابنا يقول: (( وان  ناس جنوب العراق يفضلون  خبز الرز على القمح والشعير..)) هم ليسوا عاطفيين، كما يوحى النص بكلمة يفضلون ، لكنهم جوار مناقع  شاسعة ومياه ويأكلون من زرع ايديهم!  او من المتوافر الممكن . بعض الشعوب تفيد من البطاطا اكثر من القمح اساساً لغذاء يومي.. و في مرحلة من تاريخ العراق، ابدل الناس   في بعض مناطق البلاد زراعة القمح بالشعير، لان زراعته ممكنة مع زيادة املاح الارض، القمح لا يحتمل ملوحة.. هذا مثال. كما ان الكاتب الذي  يعرض  سلوك مكتئب مزمن، يحتاح لأن يعرف اعراض هذا المرض ومتاعب  صاحبه وحالاته المزاجية وما قد يصدر عنه، ليقدم عنه كلاماً مقبولاً علمياً. وظروف جنود المشاة في الحرب غير ظروف جنود المدفعية وغير جنود الطيران. لا  يكن الحديث إنشاءً يطيب لنا ولكن ان يقنع من عرفوا التجربة والمعنيين. مواجهات الموت والمخاطر التي تسبقه غير الحديث في غرفة  مضاءة آمنة والنافذة مفتوحة على  نسائم الربيع.
مثل هذه الاسباب  تتحكم في سلوك الناس ولها أثر في شخصياتهم. فمن كان من سلالة فقراء غير من كان سليل نعمة وترف. كل واحلامه ومكبوتاته… الاسباب الكامنة تكشفها حركات وكلام الشخص، حتى اذا عمل الاثنان في  مكان واحد او حزب او منظمة، سلوك ومزاج يختلفان عن سلوك  ومزاج.. كما ان ابن الاقلية الذي الف الانتقاص والشعور بأنه ليس في موضع  تمام الاحترام ومعرَّضٌ للنظر الدون، هو غير ابن السلطة الحاكمة. وأظن ان الكثيرين منا عرفوا درجات من الاضطهاد واضطروا على استرضاء من يكرهون او الصمت على اخطاء  وشراسات.
 كان سويفت (( ايرلندياُ- انجليزياً)) ونحن  نعرف ما كان بين الايرلنديون والانجليز الحاكمين، ما كان يشعر انه في وطنه، هو لا في ايرلندا ولا في انجلترا او بريطانيا العظمى. وقد اكتشف اوسكار وايلد ان احد الحلول لهذه المشكلة ان يصبح  انجليزياً اكثر من الانجليز! فسلوك شخصية جليفر المتذلل الخنوع، وراءه اسبابه. ولنا من هؤلاء امثلة عرفناها!
اقرأ في اشعار بعض من اصدقائنا لوماً وادانات لحبيباتهم او معشوقاتهم، لانها ما ارتضت به وانها فضلت سواه عليه، مما يدل على جهالة وحديث فتيان لا ناضجين يعرفون الحياة. وهذا هو ما يرد في الاغاني العراقية القديمة، ولا تخلو الجديدة منه: لوم  واتهامات بالخيانة واللاوفاء.. الخ اللغو. وكأن ليس من حقها أن تختار الاصلح للحياة الزوجية والاوفق لها مزاجاً و سلوكاً وانها غير محكومة بشرط اجتماعي ومطالب للحياة. هو يريدها كما يشاء أو كم يرغب وان ترتضيه وقد اكتشفت مالا يريح فيه. هي اكثر حصافة منه وتقدر جيداً ضرورات حياتها. مواجهة الحياة والضمانات الممكنة لحياة عائلية غير الانشاء والعواطف ، وغير الرغبات المستشاطة قد تخبو او تغير اتجاهها.
حتى الشعراء الاجانب، القدامى ، بينهم نماذج مثل هذه. يبدو ان التخلف الاجتماعي والمعرفي وراء كتابات كهذه فلا يكون الاداء حكيماً. قصيدة اندرومارفل: ” الى حبيبته
 الخَفِرة ..”  ، يدعوها فيها للحب، فالحياة قصيرة وستموت.. هل هو معنيّ لمصير وقصر الحياة ام يريد اقناعها لمعاشرته؟ أليست هذه دعوات العديدين من الغزلين جلاّس المقاهي، ولا سيما المراهقين الشيوخ؟ اين المعرفة وفهم  المجتمع وضمان سلامة المستقبل وشروط أن تعيش ايامها  بسلام؟ كل هذا لايعني السيد العاشق. نغفر له، إن كان رجلاً عادياً ولكن ان يكون أديباً شاعراً يكتب قصيدة حب، فهو هبوط في المستويين الاخلاقي والثقافي وهي سذاجة سفيهة تحكم هكذا اشعار!
والشاعر وليم بتلر ييتس،  صاحب نوبل 1928 والذي كان طويل أُلفْةٍ وحب لمودجن ومعها في  الوثبة الايرلندية، طلب الزواج منها مرتين ورفضت او لم ترتضي به زوجاً هو. شاعر كبير  نعم، لكنها لم تره زوجاً مناسباً، للواقع متطلبات اخرى. مع ذلك لم يسف فيذم ويشتم، ظل شاعراً ومحترماً. التقاها مرة وهي في طريقها لاجتماع  ثوري، فأسمعها: لماذا  تشغلين نفسك  بامور  كهذه ولديك ما يغنيك عنها..؟  ابتسمت واكملت الطريق..
والقصص  الملأى بالسخط أو  بادانات شخوص بسبب  سلوكهم ، ليست مقبولة كاوصاف طافية ولكن يمكن أن تسبّب وتسبقها اجواء تنمو فيها هذه الصفات حتى  تصير عيوباً  لنرتضيها.. 
مثال آخر، انا لا ارى  صواباً السخرية من جائع ينظر او يتشمم من وراء زجاج المطعم. سخرية بائسة لكن ترتفع قيمتها  وتصبح مُرّةً حين نعرف الجوع القديم الموروث او المزمن، الموقف كله يتغير بمعرفتنا ما وراءه. اكثر من هذا ، ان وراء بعض المقولات في القصص  والروايات اخطاء علمية او لا يرتضيها الواقع فالمعرفة بالطبيعة والانواء تجعل وصف الجو  مقبولاً وكذلك معرفة ازقة المدينة وتفاصيل حياة الناس فيها كما ، وصف الموائد ولياقات الحفلات الارستقراطية.. الكتابة ليست شتائم واستياءات قد لا تكون  عادلة. ولا مدائح لما  قد يكون وراءه اخطاء او حتى جرائم بحق افراد او حق مجتمع. الكتابة كشف وراءه نفاذ بصيرة ومعرفة بالتفاصيل.. أما اعتراف بعض رواة القصص يحكي احدهم بانه يجهل ما يجري او كيف، فهذا احتيال  تقني لتواصل القصة حركتها او هو  لاصطناع غموض يحتاح له توالي  الاحداث.بقيت مسألة، وقد تكون خارج الصدد قليلاً لكن مهم قولها: إن تلك العيوب او المآخذ لا تشفع لها اللغة مهذبةً ومصقوله واضحاً فيها الابداع في الصياغات . فهذا مفترض ان يكون ما دمنا نصنع فناً سواء كتبنا قصيدة او قصة او رواية…

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *