المكان والمجال

المكان والمجال
آخر تحديث:

ياسين النصير
تكاد هاتان المفردتان تحددان معنى الحداثة وما بعد الحداثة انطلاقا من فلسفة عمارة  المكان. فالداخل الى البيت يدخل إلى مكان،والخارج من البيت يخرج إلى فضاء الشارع اي يخرج إلى المجال. تركز الحداثة على المكان،بينما تركز مابعد الحداثة على المجال. وبقدر ما يكون المكان مؤثثًا بأشيائه ومكوناته وشحناته، يكون المجال مشحونا باللامكان بالرغم من انه يقيم كيانه في المكان. والأمثلة التي تؤكدها الحداثة المفرطة كما يقول مارك أوجيه، هي تلك الأمكنة التي لا تعين هوية الذات المفردة،بل تعين هوية المجموع من أنهم ليسوا ذواتا بل هم تذاكر سفر، وهويات تعريف، وبطاقات بنوك، وكارتات تصريف، ومثل هذه اللا أمكنة كالمطارات والطائرات والأسواق الكبيرة والطرق السريعة لا يمكن تعريف الافراد إلا من خلال تذاكر السفر في المطارات وكارت البنك في الأسواق، وبطاقات الدفع للمرور في الاوتوسترادات.. هنا الأسماء تختفي وراء الهويات المختلفة وتصبح طريقة التجوال كما لو كنت في ساحة وجهك قفاك، ويمينك يسارك، هذه الأمكنة هي اللاأمكنة، التي ترتبط بالحداثة المفرطة اي  الكيفية التي تلغى فيها الهوية الذاتية، وتستبدلها ببطاقة أو تي كارت لا يحمل إلا بصمة قابلة لتعويض الأسماء.
في الجانب الآخر من تضييع هوية الذات، عندما تكون مسافرًا في الطرق السريعة، سيحدد الوقت الكيفية التي ترى فيها الأشياء على جانبي الطريق، لو كنت مسافرًا صباحًا قبل بدء الدوام في الدوائر، اي بين الخامسة والسادسة والنصف ستكون مسارات العربة التي تقلك بطيئة، وعندئذ يمكنك ان تستعمل حاسة البصر بما يمكنك من التعرف على الإعلانات وأعمدة النور وبعض اللافتات، ويمكنك أن تتأمل الطريق وتعرجاته، وأن تواصل سرد الحكاية دون انقطاع، وأن تقرأ وان تتواصل مع غيرك تلفونيا، ويمكنك أن ترى صف البيوت المحاذية للطرق السريعة، وحتى التأمل في نوافذها المغطاة بستائر شفافة، حيث يمكنك ان تلمح حركة ما وراءها، أو ثمة مايحركها في فضاء البيت، هذا البطء والتأمل جزء من هوية اللا أمكنة، التي لا تتعين بالرؤية العابرة، بل بالرؤية المركزة، ويعني ذلك أن الطرق السريعة لن تكون العلاقة معها متشابهة عندما تقطع البراري والأرض الشاسعة دون أية علامات تحددها، سوى تلك التقاطعات التي تحدثها محلات التعبئة للبانزين او المطاعم، عنئد يمكنك أن تعيد تركيب الطريق السريع ثانية محسوبا بالساعات والمسافات،  وغالبا ما يكون اتصالنا بالاصدقاء والاهل خلال السفر الطويل عندما نحط رحالنا في المطاعم فهي نقاط محددة وعلامات تحدد  المسافات ويحدد عبرها مدى ما مضى وما بقي من  الطريق. أما إذا تحركت في الطرق السريعة أثناء بدء الدوام او انتهائه فلن تركز على الشارع وما يحيط به، ستكون مشدودًا لحركة القدمين.هذه اللاأمكنة واحدة من صيغ التبادل الحر في المشاعر مع ما يحيط بك، ها أنت في سوبر ماركت تشتري بضاعتك وتتجه نحو المحاسب الذي هو عبارة عن آلة تحدد الأسعار وتستقطعها من بطاقة ائتمانك البنكية، دون ان تسأل عن اسمك واسرتك وهويتك، كل شيء بدا وكأنه تعويض عن الذات عندما تجمل ايقونة البطاقة الذكية هويتك وبدورها ليس من حاجة لابتسامة فتاة القبض او المشتري، كل شيء يتم بالتبادل المريح، اي بتلك الاشياء العلمية التي تحكم الهويات العامة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *