تجهيل العراقيين وتجويعهم جريمة ضد الإنسانية

تجهيل العراقيين وتجويعهم جريمة ضد الإنسانية
آخر تحديث:

بقلم:د.ماجد السامرائي

قبل عشرين عاماً وبعد أشهر من اعتراف بول بريمر أن الولايات المتحدة جلبت من جلسوا أمامه من الشوارع ليحكموا العراق، اتهم الناقدون والمعارضون الوطنيون لحكم تلك المجموعة المتخلفة والفاسدة التي أتقنت دور فن المعارضة العميلة بأنهم “بعثيون وسُنّة فقدوا السلطة ويحاولون استعادتها”.قَبِلَ تلك الخديعة البعض من ذوي النيات الطيبة من البسطاء في المحافظات الوسطى والجنوبية، الذين اعتقدوا أن إطلاق حرية المشاعر والطقوس المذهبية مكسب تاريخي، كالماء والخبز، افتقدوه في زمن النظام السابق الذي قنّنها وسعى لإبعادها عن التسييس الخارجي. لم يرفض أولئك المخدوعون القلة من بعض الكَتَبة والداخلين إلى السياسة بالصدفة تحويل قصة التزوير التاريخي للحكم الإسلامي إلى لعبة سياسية مع أن مكانها الكتب والاجتهادات.استثمر قادة النظام الإيراني دُهاة لعبة المذهب منذ السنوات القليلة الأولى، بعد عام 2003، من حكم عملائهم حالة الانفصام الذهني الجمعي عن الواقع للكثيرين من أبناء الوسط والجنوب البسطاء، الشبيهة بالتنويم المغناطيسي لتمرير الأجندات السياسية لبدعة الحكم الإسلامي الشيعي في بغداد برضا أميركي، قد يقول البعض إنه غير مقصود لكنه كذلك. معروف أن المُنوَم مغناطيسياً قد لا يشعر بالألم الحقيقي، مثل ذلك المجنون المتعرّض لضربات قاسية من عصا الدرويش ليخرج الشيطان من رأسه.

أهم مكسب إيراني، استمر لسنوات غير قليلة، لتلك الأجندات في العراق كان تعطيل المعارضة الشعبية العراقية من الوقوف في وجه النظام “الشيعي السياسي” الجديد، بعد أن تبددت الشعارات الأميركية الكاذبة بأن ديمقراطية البلد بعد نظام صدام ستجعل من العراق تاج الحرية والتقدم والديمقراطية والرخاء في المنطقة لأبنائه الذين سوف ينسوا عقود الحروب والحصار متمتعين بثروات بلدهم الهائلة.

هنا تأتي تأثيرات اللعبة السياسية الكبيرة، بعد انتهاء مفعول التنويم المُدبّر وحتى عام 2019 تاريخ ثورة الوعي العراقية، القائلة بأن النقد والمواجهة للحكام “الشيعة” هي مؤامرة “بعثية” ثم أصبحت أميركية – إسرائيلية. لا ممانعة ولا معارضة للقتلة والسُراق حتى في ظل حالة الجوع والحرمان والفقر، لأنها كذلك وفق الخدُعة، التي أصبحت اليوم مخنوقة، محصورة من بين “علامات عودة المهدي المنتظر”. رغم كل الذي حصل لأبناء الشيعة من حرمان يقولون لهم إن “السبب في حرمانكم محاصرتنا ومنعنا لأننا أبناء الحسين” المطلوب استمرار حكم طغاة العصر وسراق ثروات البلد المهيمنين على مصيره واستمرار أبنائهم وعوائلهم.

لا يعلم أسياد هؤلاء الأغبياء والجهلة أن مشروع التجهيل والتجويع ضد أهل العراق لإبقائهم أطول مدة ممكنة تحت خانة التيئيس والاستسلام، رغم قسوتها، نتائجه قاسية على قادة الأحزاب المتورطين بالتوجيه وأدواتهم المنفذة

هؤلاء الذين استلموا الحكم في العراق خلال العشرين سنة الماضية أغبياء لا علاقة لهم بالسياسة، أو حتى المبادئ الإسلامية والشيعية الداعية إلى العدالة والحق وحقوق الإنسان، لأنهم منفذون لسياسات خارجية هدفها نهب ثروات البلد. لو توفّرت لهؤلاء الحدود الدنيا من الوعي والذكاء السياسي وحب الوطن لقدموا لأهله أبسط مقومات الحياة الكريمة في العيش والصحة والتعليم، ولأصبح ذلك مبرراً لاستمرارهم في السلطة.

استثار ذاكرتي خلال كتابة هذه السطور حادث وفاة الرئيس الإماراتي الشيخ خليفة بن زايد ابن مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، هؤلاء القادة الحكام أبناء مؤسس الدولة حوّلوا الحكم إلى وسيلة طُوّعت لبناء الإنسان وخدمة بلد كان صحراء ثم أصبح خلال سنوات قليلة البلد الأول عالمياً في الحياة الإنسانية والعمران، هؤلاء القادة يستحقون من شعبهم الوفاء والمحبة والإخلاص ومن أشقائهم العرب المساندة والفخر.

الخبر الذي أشهد على صحته أنه في عام 1974، خلال أحد اجتماعات مكتب الإعلام في بغداد، اقترح وزير الإعلام طارق عزيز على نائب رئيس الجمهورية حينها صدام حسين معاونة الإخوة الإماراتيين الذين استقلوا بدولتهم الجديدة في دعم زراعتهم مثلاً. فوراً، خلال الاجتماع، أمر صدام حسين بإرسال عشرة آلاف فسيلة نخيل من أجود أنواع التمور بواسطة الطائرات العراقية. اللافت أن الإماراتيين لم يغرسوا فسائل التمور في أرضهم فقط، بل تمكنوا من بناء حقول للتكثير وفق أحدث الطرق العلمية، لتصبح الإمارات من أولى دول المنطقة في تصدير أجود التمور إلى العالم. أما العراق صاحب الميزة العالمية، فقد عاث فيه المأجورون والفاسدون قتلا ودمارا وجرفوا بساتين نخيله ذات الملايين العشرة في السبعينات، وأصبح مستورداً للتمر من إيران بعد أن كان ينتج ثلاثة أرباع منتوج العالم.

مسلسل فاجعة تدمير العراق متواصل، نهبوا كل شيء يمكن أن يشكل قاعدة لإعادة البناء، فككوا مصانعه وقدموها “خردة” للجارة الضارة. منعوا كل خطوة تنفيذية يمكن أن تساعد على التنمية والاكتفاء الذاتي في الزراعة والصناعة لأنها في تقديرهم تحرم إيران الطامعة من الغنائم. تقاسموا كلٌّ حسب مكانته في سلّم العصابة سرقة النفط قبل التسويق وبعده، وأشاعوا الأمية بعد أن كانت صفراً في عهد النظام السابق، لتشمل الآن أكثر من 40 في المئة من العراقيين، وانتشر تعاطي المخدرات بنفس النسبة تقريباً.

كان الثمن قاسياً، دفعه أبناء الطائفة العربية السنية لسنوات غير قليلة، في ظل فترة التنويم القاسية لبسطاء الشيعة، قبل أن تتحقق صدمة الوعي من قبل جيل الشباب الذين كشفوا أهداف الخدعة السياسية الكبيرة في توظيف الشعارين الطائفي والديمقراطي، رغم تعارضهما، في استهداف جميع فئات الشعب وطوائفه باستثناء الأجراء والعملاء.

هذا التطور المهم في الحالة العراقية نبّه المتسلطين على الحكم بمشورة أوليائهم بتطبيق مسارات جديدة تنتقل من استمرار تعميم مشروع التجهيل إلى تفعيل نظرية التجويع والقتل الجماعي البطيء، رغم صعوبة تنفيذ هذا السياق التدميري في بلد غني كالعراق.

مثال بسيط عن ذلك، فقد كشف جمال كودر عضو اللجنة المالية في البرلمان العراقي في تقرير إحصائي قبل أيام أن “أكثر من ربع مليون شخص يستلمون راتبين شهرياً، وآخرون يستلمون 6 رواتب و5 و4 و3، تكلف الحكومة 18 مليارا و900 مليون دولار سنويا، 99 في المئة منهم سياسيون وأحزاب ورفحاء”، بينما الولائيون المهيمنون على مرافق حكومات ما بعد 2003، يمنعون أو يعوقون مثلاً معاملات تقاعدية لموظفين خدموا الدولة العراقية رغم عدم وجود موانع قانونية ضدهم.

مسلسل فاجعة تدمير العراق متواصل، نهبوا كل شيء يمكن أن يشكل قاعدة لإعادة البناء، فككوا مصانعه وقدموها “خردة” للجارة الضارة. منعوا كل خطوة تنفيذية يمكن أن تساعد على التنمية والاكتفاء الذاتي

كثيرة هي التقارير المتداولة، قسم منها قد يبدو مبالغا فيه، حول حجم النهب، لكن تقريراً موثّقا كشف أخيراً عن موافقة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على منح 14 ألف مقاتل من حزب الله اللبناني رواتب تقاعدية تحت عنوان “عمال لبنانيون كانوا يعملون في العراق”، وحين سأل كاتب التقرير مصدراً رسمياً في أمانة مجلس الوزراء عن السبب، أجاب “هو ذات القانون الذي أجاز منح 80 ألف مصري عملوا في العراق خلال فترة الحصار”، لكنه لم يقدم جوابا عن عدم رعاية خمسة ملايين عراقي تركوا العراق. 

وقبل أيام نشرت وزارة الثقافة العراقية موافقتها على تخصيص مبلغ قدره  12 مليار دينار عراقي، ما يعادل 821 مليون دولار، لإقامة نصب تذكاري للمتوفّى محمد الصدر والد مقتدى. في هذه الأيام تبدو صناعة الأخبار مُحيّرة، لكن لو كان الخبر ليس صحيحا لتم تكذيبه من مكتب الصدر. هل يقبل مقتدى ذلك وهو المدافع عن الفقراء والمحرومين.

الطبقة الحاكمة لم تستسلم ولا يتوقع استسلامها، فبيدها المال والسلاح، لا تسمح أن يعارضها أحد فهي “الممثل الشرعي الإلهي على الأرض” رغم فقدان شرعيتها الوطنية، 80 في المئة قاطعوا آخر دورة انتخابية، وفقدان شرعيتها الوظيفية لأنها لم تقدم منجزاً حقيقياً للشعب. والأهم عدم حبهم للعراق وأهله.

لم يعجب حكومة الفاسدين ببغداد تقرير برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة الذي أعلن أخيراً تعرض قرابة ثلاثة ملايين مواطن عراقي لأزمة مقص في استهلاك الغذاء، رغم الإعلان الرسمي بوجود فائض مالي يقدر بـ16 مليار دولار بسبب زيادة واردات النفط.

قبل أيام عمم رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي تقرير المجموعة الاستخبارية الأميركية الذي رفع الرئيس الأميركي جو بايدن السريّة عنه، وأشار التقرير إلى خطورة التغيير المناخي وعلاقته بالأمن القومي حتى عام 2040. والعراق هو البلد الوحيد في المنطقة الذي سيواجه هذا الخطر وينذر بتوترات قد تهدد الأمن القومي الأميركي.

أقسى عمليات الإبادة البشرية البطيئة هي خلق المجاعة الكبرى مصاحبة لبرنامج التجهيل في بلد غني كالعراق.

ثلث العراقيين جائعون لأن هناك طبقة من الأثرياء الجدد وجدت الطريق أمامها سالكة لاستثمار الفرصة الذهبية والاستيلاء على الجزء الأكبر من أموال البلد، بدعم وتغطية رؤساء الحكومات المتعاقبة المتورطة بهذه الجريمة الإنسانية، أما ما يتبقى فإنه يوزع على شكل رواتب تبقي الموظفين في دوامة البحث عن حلول يغلب عليها طابع الرشوة والفساد بعد أن تم تطبيعه اجتماعيا والقبول به ثقافيا وتمريره دينيا عن طريق فتاوى رخيصة.

أمثلة لا تحصى لمظاهر مؤلمة للخرافة الموجهة تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي داخل العراق، تكشف تصاعد حملة التجهيل الإيراني المرتبطة بالولاء العلني لنظام ولي الفقيه وتقديس زعيمه المؤسس. شاهدتُ قبل أيام فيلماً مؤلماً منشوراً على وسائل التواصل لثلاثة أشخاص عراقيين يقفون على حفرة صغيرة في منطقة سافان قرب مدينة البصرة، يقولون عنها إنها “مقدسة، لأنها المكان الذي توضأ فيه الخميني قبيل خروجه من العراق، يجب تخليدها وبناء معلم عليها”.

لا يعلم أسياد هؤلاء الأغبياء والجهلة أن مشروع التجهيل والتجويع ضد أهل العراق لإبقائهم أطول مدة ممكنة تحت خانة التيئيس والاستسلام، رغم قسوتها، نتائجه قاسية على قادة الأحزاب المتورطين بالتوجيه وأدواتهم المنفذة.

تجهيل العراقيين لتيئيسهم واستسلامهم لمشيئة قادة الأحزاب المأجورة والفاسدة، وكذلك تجويعهم عمداً بسرقة أموالهم وثرواتهم، جرائم ضد الإنسانية لا تقل عن مسلسل القتل، لن تسقط بالتقادم وسيحاسب الشعب عاجلاً أم آجلاً المتورطين في تنفيذها، جميعهم بلا استثناء، من قائمين عليها ومنفذين لها.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *