بغداد/ شبكة أخبار العراق- في محراب بانثيون الفكر الغربي في القرن التاسع عشر، يتصدر المشهد ثلاثة عمالقة، هم: كارل ماركس (1818-1883)، سيجموند فرويد (1856-1939) وفريدريك نيتشه (1844-1900).أفكار ماركس، في إصلاح النظام الاقتصادي والاجتماعي، وفرويد في التحليل النفسي للعقل الباطن والحياة الجنسية للفرد، سادت وتم استيعابها جيدا في القرن العشرين.لكن أفكار نيتشه المقلقة والمرعبة، ظلت طافية على السطح الواعي للفكر الحديث طول الوقت. تخيل مفكرا يحدثك عن لا شيء سوى أحداث خارج نطاق الممكن والمعقول، أو عن تجارب فريدة نادرة لا تحدث، أو عن لغة لا تسمع، مفرداتها التجربة، والتجربة وحدها الآن وبعد وفاته بأكثر من قرن من الزمان، بدأنا ندرك ببطء مدى التغيير الذي سببه نيتشه في فهمنا العميق للعلوم والأخلاق، كما تصورهما وكما تنبأ بهما.في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1844 في روكين، ساكسون، رزق قس بروتستانتي بأول مولود ولد له، فريدريك ويلهيلم نيتشه، العائلة من أصل أرستوقراطي بولندي، أنتجت العديد من رجال الدين. كان من الطبيعي أن ينحو المولود الجديد، عندما يكبر المنحى نفسه، لكن ما حدث هو العكس تماما عندما كان فريدريك طفلا عمره 5 سنوات، سقط والده ووقع على رأسه، مما تسبب في وفاته. بعدها بسنة واحدة، انتقلت العائلة إلى نومبرج كان الطفل الصغير يميل إلى الشعر ويحب الموسيقى، في المدرسة كانوا يسمونه «القس الصغير». في البيت، كان يعيش مع أمه وأخته وجدته وعمتين.عام 1858، في سن 14، حصل نيتشه على منحة دراسية للدراسة في المدرسة الأكاديمية المشهورة بفورتا بالقرب من نومبيرج، هناك نما عشقه للدراسات الكلاسيكية. تميز في اللغتين، اليونانية واللاتينية، القديمتين. كان مسحورا بأفلاطون، الفيلسوف اليوناني، واسخيليوس، الكاتب المسرحي اليوناني. ومن لا يسحر بهما؟ عندما ترك نيتشه بفورتا عام 1864، لم تكن قد ظهرت عليه بوادر تنم عن أفكاره القادمة. قام بشكر أساتذته، وأبدى امتنانه وشكره للرب وللملك. كما يفعل كل الطلبة المؤدبين.في أكتوبر 1864، في سن العشرين، التحق نيتشه بجامعة بون لدراسة اللاهوت والفلسفة والفيلولوجي (علم فقه اللغة) لكنه سرعان ما نبذ دراسة اللاهوت.في السنة التالية، انتقل إلى ليبزيج لكي يتبع استاذه ريتشل، بعد أن قبل ريتشل وظيفة مدرس بالجامعة. في ليبزيج، في متجر للكتب المستخدمة، اكتشف نيتشه بالصدفة كتاب «العالم كإرادة»، تأليف الفيلسوف الألماني شوبينهاور (1788-1860). كل سطر في الكتاب، مصبوغ بالفكر الإلحادي المعادي للأديان.بالنسبة لشوبنهاور، وكذلك الفيلسوف العظيم كانط قبله، هناك فرق أساسي بين العالم كما يبدو لنا خلال حواسنا (فينومينا)، والعالم على حقيقته (نومينا). العالم الظاهري، هو مجرد واجهة أو تعبير عن الحقيقة، وليس الحيقة نفسها.مياه المحيط تبدو لنا زرقاء، لأن السماء الزرقاء تعكس لونها على سطحها. لكن في الحقيقة، مياه المحيط ليست زرقاء. والسماء زرقاء بسبب انكسارات الضوء في الغلاف الجوي. خارج الغلاف الجوي، السماء سوداء كالكحل. الحقيقة شيء مختلف عما تدركه حواسنا.هذه الإرادة، خارجة عن عالم الزمان والمكان، إنها ليست شيئا فيزيائيا بالمرة، لكنها وراء كل الأشياء الثابتة والمتحركة في هذا الكون هذه الإرادة، غير الفيزيائية، والتي توجد خارج نطاق الزمن والمكان، هي البديل للإله في نظر شوبينهاور، لكن هذه الإرادة، هي سبب كل هذا الشقاء والمعاناة. لكن نيتشه رفض الاستسلام لليأس، ورفض نظرة شوبينهاور الحزينة والتي سمي بسببها فيلسوف التشاؤم. رفض نيتشه أيضا فكرة أن الكون يدار بإرادة عمياء، لا هدف لها ولا معنى. كان يقول، إذا كان شوبينهاور يدعو للتقشف والزهد ورفض الحياة، فأنا سوف أدعو إلى العكس وتأكيد الحياة.في عام 1867، دعي نيتشه لأداء الخدمة العسكرية في سلاح المدفعية بالجيش البروسي (جزء من ألمانيا حاليا). أثناء الخدمة، سقط من على صهوة جواده وأصيب قفصه الصدري بجروح بالغة.منذ طفولته كان نيتشه معتل الصحة، كانت تسوء صحته مع الوقت. أثناء مرضه، بدأ يفكر في طبيعة الحياة الأكاديمية وفقه اللغة موضوع تخصصه.في عام 1867، كتب يقول إن عالم فقه اللغة يبعده عن مشاكل الحياة الملحة. وإن الحياة الأكاديمية، تقضي على غريزته في الدفاع عن النفس، وتجعله يدافع فقط عن الكتب والمخطوطات. إذن فلتسقط الحياة الأكاديمية. كل الكتابات عديمة الجدوى إن لم تحفز على فعل شيء ما يساعد على الحياة.كتب نيتشه يقول: «مع شعور مختلط، وكثير من التملق، قبلت وظيفة مدرس لفقه اللغة القديمة في سن 24 سنة». أساتذته في جامعة ليبزيج، قرروا أن يمنحوه الشهادة بدون الامتحان النهائي. حقا هذا الطالب، يمتلك ذكاء عقليا غير عادي.كتابه الأول، مولد التراجيديا، ظهر عام 1872. لم يخدمه، بل تسبب في ابعاده عن المحفل الأكاديمي. التعليق الوحيد عليه، جاء يقول: «أي واحد يكتب مثل هذا العمل، يكون قد أنهى حياته كأستاذ أكاديمي.»من السهل معرفة لماذا؟ لأن الكتاب يدمر التفرقة والفصل التقليدي بين الفلسفة العقلانية والفنون الخلاقة. الكتاب يبين: أصل التراجيديا الإغريقية، والفرق بين التفكير العقلاني والإحساس الجمالي. ولماذا عالم الجمال في حياة الإنسان شيء أساسي، يعلو على عالم العقلانية. ولماذا الثقافة الحديثة مريضة، وكيف يمكن علاجها؟ إننا نستخدم من أدوات الثقافة، الاستعارة و(الحدوتة) والعظة والبلاغة والشعر والنثر. لكن نيتشه يستخدمها للتعبير العقلاني. كما إنه يقوم بهز عرش اللغة والشعر، الشعر الذي يشبه أشعار شيللر. ويمهد له بالموسيقى التي تجعل العقل يتقبله.ديونيسوس، هو إله الخمر عند الإغريق. مفرط في البهجة والسعادة الحسية، بذلك يمثل الإنسان البدائي. أتباعه، ينسون أنفسهم ويعطلون اللغة، وينخرطون في الرقص الشاطح، مثل (الزار) عند النساء والذكر عند الصوفية. الموسيقى وشرب الخمر حتى الثمالة، هي وسيلتهم، وطلب الوجد غايتهم.
نيتشه: الفن تحول إلى مجرد تسلية وإضاعة وقت
آخر تحديث: