آخر تحديث:
بقلم: مهند محمود شوقي
منذ لحظة احتلال العراق عام 2003، لم يعد هذا البلد يعيش الزمن بوصفه تتابعاً طبيعياً للأحداث، بل كسلسلة من الصدمات المتراكمة. لم يكن الاحتلال مجرد تغيير نظام سياسي، بل تفكيك دولة كاملة أُخرجت من توازنها التاريخي وأُعيد تركيبها على أسس هشّة جعلتها أكثر عرضة للارتدادات الإقليمية اللاحقة. ما جرى في العراق كان، باعتراف مراكز بحث غربية لاحقاً، تجربة مفتوحة لإعادة تشكيل الدولة بالقوة، دون ضمانات حقيقية للاستقرار أو وحدة القرار، وهو ما وثّقته تقارير صادرة عن مؤسسة راند والبنك الدولي في سنوات ما بعد الاحتلال.
في تلك المرحلة، كان العراق يُدار بمنطق إدارة الأزمة لا بمنطق بناء الدولة. مؤسسات ضعيفة، قرار سيادي موزّع، وسلاح بدأ يخرج تدريجياً من يد الدولة ليصبح جزءاً من المعادلة السياسية. ومع كل محاولة للترميم، كانت الفجوة تتسع بين الدولة والمجتمع، وبين النص الدستوري والواقع الفعلي. المواطن العراقي لم يكن معنياً بالسجالات الدستورية بقدر ما كان يبحث عن دولة تحميه وتوفّر له الحد الأدنى من الاستقرار، وهو ما لم يتحقق.
لكن الخلل الأعمق لم يكن أمنياً فقط، بل مسّ جوهر الصيغة السياسية التي قام عليها ما سُمّي بـ”العراق الجديد”. فالعراق الذي تشكّل بعد عام 2005 كان، نظرياً، دولة اتحادية قائمة على الشراكة بين مكوناته، شراكة نصّ عليها الدستور وكرّستها التفاهمات السياسية الأولى بعد الاحتلال. غير أن هذه الصيغة لم تُدار بوصفها عقداً سياسياً ملزماً، بل كمرحلة انتقالية قابلة للتأويل، سرعان ما بدأت تتآكل تحت ضغط الصراع على السلطة وتراكم الأزمات. ومع اندلاع الربيع العربي عام 2011، ثم انسحاب القوات الأميركية نهاية العام نفسه، دخل هذا الخلل البنيوي مرحلة أكثر حدّة، إذ غاب الضامن الخارجي للتوازنات، وتراجعت فكرة الشراكة لصالح منطق المركز.
وعندما جاءت صدمة عام 2014 وسقوط الموصل، لم يواجه العراق تهديداً أمنياً فقط، بل شهد تحوّلاً عملياً في مفهوم الدولة الاتحادية. فالحرب ضد الإرهاب، رغم مشروعيتها وضرورتها، استُخدمت لتكريس إدارة أحادية للقرار السياسي والأمني، همّشت روح الشراكة وأضعفت الثقة بين المركز والأطراف. ومنذ ذلك الحين، انتقل العراق، بهدوء ومن دون إعلان رسمي، من دولة يُفترض أنها اتحادية مبنية على الشراكة، إلى دولة اتحادية بالاسم تُدار بروح الغلبة السياسية لا بروح التوافق الدستوري.
وعندما وصلت المنطقة إلى لحظة الربيع العربي، كان العراق قد استُنزف مسبقاً سياسياً وأمنياً إلى درجة جعلته عاجزاً عن امتصاص الصدمة كما فعلت دول أخرى. الربيع العربي لم يُشعل العراق، لكنه هزّ الأرض من تحت أقدامه. فانسحاب القوات الأميركية نهاية عام 2011، وفق تقديرات مجموعة الأزمات الدولية، ترك دولة غير مكتملة السيادة تواجه محيطاً إقليمياً مشتعلًا، من الحرب في سوريا إلى انهيار الحدود وصعود الخطابات الطائفية، وهي عوامل اجتمعت لتدفع العراق نحو أخطر منعطف في تاريخه الحديث.
مع كل محاولة للترميم كانت الفجوة تتسع بين الدولة والمجتمع. المواطن العراقي لم يكن معنياً بالسجالات الدستورية بقدر ما كان يبحث عن دولة تحميه وتوفّر له الحد الأدنى من الاستقرار










































