خصوصية الوعي في « لا احد يشبه حالنا «

خصوصية الوعي في « لا احد يشبه حالنا «
آخر تحديث:

علوان السلمان

إن عالم الادراك والمعرفة بالفنون يتضمن قابلية لتخطي حواجز الواقع المادي، لذلك لا يقف المبدع عند حد معين في طموحه للكشف والتغيير، بل يجتاز المسافات عبر خياله ورؤاه، والشعر من الفنون التي تعبر عن دفقة احساسية واعية يعلن عنها منتج (شاعر) ينفعل بفكرته المندمجة في الصور حين يكون مهيئا للتعبير عن تجربته بألفاظ وعبارات اخذت مداها واسترخت امام قارئها بهدوء، فالتعبير عن الوجدان يستلزم الفاظا ذات دلالات نفسية وشعورية تستمد حياتها من وجودها في سياقها واتصالها بكلمات أخرى كي تتفاعل معا وتتأثر وتؤثر بها.
والمجموعة الشعرية (لا احد يشبه حالنا) للشاعر رياض الغريب استطاعت ان تفرش روحها بتشكيل دفقاتها الاحساسية الواعية، عبر نصوصها الستة والعشرين نصا والصادرة عن دار الصواف/2018، والتي جسد فيها الشاعر الخط الاساس لقصيدته بإحاطتها بلحظات من التوتر التقطها وجسدها من خلال التناقض الموجود، داخل مطبات الحقيقة الانسانية والواقع، فالممارسة الشعرية عنده تعبير زمني لتحقيق خلود الاشياء والاحداث من خلال فكر يحدد المواقف والصور والمشاعر والانطباعات، كون تجربة الشاعر تعني ادراكا حسيا وعاطفيا لمجمل مشكلات الحياة، فقصائده تستمد غناها من خصوصيتها وانسانيتها وقدرتها على ايصال واقعيتها، ومعاناتها، وخصبها بصوت عميق، عمق المفردة التي يستخدمها، كونه يصور حركة الاشياء من خلال رؤية واقعية واضحة، مع تفهم لجوانب معمقة تلف محيطه..ففي قصائده يعالج عبر رؤيته الشعرية ما يحيطه من واقع باستخدام الصورة التي تشكل عنصر بناء عضوي ..
كلما انفجرت سيارة مفخخة
في ركن من البلاد
يتهشم زجاج بيتي
وتموت شجرة في حديقتي
لهذا
أقيم حدادا من الوجع
ومآتم لا تنتهي في قلبي /ص5
الشاعر يحتفظ بقدرته على المتابعة الموضوعية للواقع وبث كل سخونته الانفعالية في صوره الشعرية، فانطلق صوته صارخا بين الحين والآخر معبرا عن احتجاجه والمه بوعي اكتسبه عبر الزمن كي يحقق مصير الاشياء ويصبح لوجود الانسان معنى عبر الصراع مع الواقع، فمزج بين الواقعي والرمزي وذلك في اختياره التفصيلات الواقعية الموحية والممزوجة برمزية في كثير من قصائده المحتجة ضد الحرب ومسببيها..
عندما انتهت الحرب
صديقي العريف
قال: تصدق او لا تصدق
انا حامل بالحرب
ضحكت
وقلت: ماذا ستنجب لنا
قال: حربا صغيرة
من يومها
كلما مررت بشارع
رأيت ابن العريف
يتناسل في البيوت
صورا معلقة
من يومها رايته
يسحب اولادنا
من ربطات أعناقهم الجميلة
للمقبرة ص25 ـ ص26
البناء الشعري عند (الغريب) يكشف عن حقيقة تمزق الانسان واغترابه، عبر حس موسيقي ارتفع من مستوى الالفة الى مستوى ايقاظ الغرابة..مع خلوه من التقعر اللغوي والزخرفة البيانية..مع تمرد فكري ووجداني ضد الواقع مصحوب بإحساس عميق مؤطر بالعذاب والحلم والسخرية الممزوجة بالمرارة، كونه لا يقف عند سطح التجربة بل ينفذ الى داخلها محاولا اقامة الجسور بين التراث والمعاصرة حين يستمد من التراث مضامين قصائده بصور مكثفة تجسد الحلم الانساني في التحرر من القهر الاجتماعي بارتفاع صيحاته الانفعالية المتمردة حتى يتعرى التاريخ واضحا على مرآة الحاضر..
حين انشغلنا بالحرب
تقول أرملة من حروب سابقة:
ما أسعدني
لم أعد وحدي في المقبرة
حين انشغلنا بالحرب
نسينا ان نعلق صورنا
على الجدران
كلما أردنا الآن ان نتذكر وجوهنا
نغمض قلوبنا
وننتحب ص36 ـ ص37
كلمات الشاعر وصوره تكتسب قدرا كبيرا من الكثافة والثقل، بحكم تداخل الصور المستمدة من الطبيعة مع الاحداث المعاصرة، فمنح الظواهر وجودا إنسانيا ذا طابع عاطفي مؤثر ممسكا بالجذور البعيدة لمأساة الانسان وحلمه وعذابه، لذا كانت الرؤية الشعرية عنده لا تعبر عن حالة سيكولوجية، او موقف محدد وانما تعبر عن الحياة بمتناقضاتها البالغة، لذا فأغلب قصائده تحمل هموم كاتبها التي ارتبطت بتلمسها الواقع الانساني فحققت قيمتها الفنية بربطها الجدلي بين الشكل والمضمون، لترسم جوا سرياليا صاخبا بظلمته.. اضافة الى توظيفه تقانة الجملة التكرارية المدورة كلازمة للتنبيه وتقانة ملازمة للنص، والتي شكلت حركة ايقاعية مضافة ودلالة موحية من شانها ان تغني النص وتسمو بمكانته الفنية، اضافة الى انه يكشف عن بعد نفسي لذات الشاعرة المازومة..
تقول امرأة ما
كم هي حزينة تلك الاغنية (غريبة الروح)
كان يجدر بنا ان لا نكون هنا
قرب نواح الاغنية
تقول امرأة اخرى
كان هنا
لكنه ارتدى الرحيل وغادر /ص60
فالشاعر يوظف التراث الشعبي عبر المفردة والحكاية الشعبية والمثل، وذلك للتعبير عن دلالات فنية يطمح الى تحقيقها وهي أما رمز أو إغناء تجربة شعرية أو لمنح القصيدة أبعادا نفسية وجمالية مؤثرة، ومحاولة ايجاد معادل موضوعي لخدمة الحاضر، واختراق الواقع الاجتماعي..وقد سبقه في ذلك الكثير من الشعراء كالسياب والبياتي وحسين مردان وغيرهم..
يصل بالقصيدة الى ذروة التعبير عن النفس التي تعيش حالة التمزق بين عوالم لامتناهية التناقض ..
نقول: نحن سعداء بغبار الطري
بالظهيرة
وليالي الصيف الباردة
بالأصدقاء وهم يتلفتون بكلمات بسيطة
مثال ( شلونكم اليوم)
(الله بالخير اغاتي)
كلمات تشعرنا بوطن /ص30 ـ ص31
رياض الغريب يحقق الوحدة البنائية لقصيدته بترتيب موضوعاته ترتيبا يقوم على نمو مطرد حتى تتكامل لتوضح عاطفتها المسيطرة، واتجاهها المركزي..وبذلك يحقق وحدتها الفنية بوجود وحدة متكاملة للدافع الذي دفع الشاعر لكتابتها والغاية التي يهدف اليها..متخطيا حواجز الواقع لتحقيق ذاته عبر مجموعته هذه والتي عكست واقعا ذاتيا واجتماعيا، من خلال الصياغة الشعرية في توافق وتقاطع خلاق، يحمل عبق الماضي الذي فرش ظله على حاضر الشاعر في صور شعرية، دخلت القلب دون استئذان فحققت المتعة والمنفعة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *