مع ان العنوان (تضاريس ملونة)، ليس بحاجة إلى التفسير، أو التأويل، إلا أن المعرض أعلن عن نزعة (جمعية) منح فيها الخصائص الفردية حريتها في اختيار (الموضوع) وحرية اكبر في اختيار الأسلوب.فعلى خلاف المعارض الجماعية، أو معارض الجماعات الفنية المشتركة، لا توجد مشتركات محددة إلا بحدود لفت النظر للتجربة الفنية ذاتها، وربما لم تغب عبارة سقراط الشهيرة: لا جديد تحت الشمس، التي برهنت، بالنفي، بان الجديد ليس المستحدث، أو المبتكر، لصالح التقدم فحسب، بل (اللا جديد) هو ذلك الذي تتأسس عليه الأصول، لتحافظ عليه.إن تجاوب وتضافر الجهد (النظري) ـ الفلسفي أو الأدبي أو الجمالي أو التقني الخالص ..الخ، مع (الجديد) يسمح بقراءة متجددة لمقولة تبدو إنها شبيهة بقصة عميان أفلاطون، في جمهوريته، فالحوار يدور حول سؤال: هل يمشي العميان من النهار إلى الليل، أم من الليل إلى النهار؟ فهي لا تسمح للأمل ان يذهب ابعد من انغلاقه.فهل معرض أو مهرجان (تضاريس ملونة) يأتي ليرسخ أم ليدحض عبارة سقراط: لا جديد تحت الشمس؟ ربما ـ منذ نصف قرن أو أكثر ـ لم نر هذا العدد الكبير من الفنانين، لا تجمعهم (الحداثة) أو محاكاتها، ولا تجمعهم اختلافاتهم الفكرية، أو الأسلوبية، بل، على العكس: لا يعربون إلا عن امتنان استثنائي في حقبة كادت تحول اصلب التقاليد إلى رماد ـ والى عشوائيات ـ والى ما هو ابعد من الصخب واستحداث الفوضى.ثمة نزعة لا شعورية برهنت إنها قلبت اللا جديد، إلى ضرب من (النشوة) الآمنة، والى إعادة قراءة كل ما تمت قراءته، على مر العصور، وفي شتى مدن العالم.فعندما لم يحصل ان توحد هذا الاختلاف، من غير مكر ومكائد، إزاء تجارب فنية تتجاور فيها إبداعات (المكان)، فان الحياة ذاتها تبقى تمتلك تحقيق برنامجها إزاء غياب الفن أصلا…، فالمعرض برهن انه ليس للمباهاة، أو الدعاية، بل ان (الجديد) فيه سلك المسار الذي رسخ الواقعية، في بلدان العالم، رغم اختلاف فلسفاتها، وأيديولوجيتها، حيث (الجمال) لا ينتمي إلى المغامرة، أو للتحديق في المجهول، وإنما في إرساء القواعد ذاتها للتجمعات الحضارية، المتمدنة، منذ عصر الكهوف، إلى عصر ما بعد الموجة الثالثة، حيث الشغف بالمرئيات أكد انه مسار بالغ الثراء في دراسة وتأمل الظواهر، بوصفها تتضمن ما يوحدها، كمشترك حر، ومن غير قيود. فالواقعية ـ بمعناها المتجدد ـ لا يُستحدث من العدم، عالمها الافتراضي، من اجل الدهشة، والتفرد، بل تؤكد ان الجديد يجعل من (السلام) شرطا يذهب ابعد من التأويل، ليس بفعل الإجماع حسب، بل لأن نزعة التحرر جعلت من الجمال مرتكزا لهوية لم تعلن عن خصائصها، إلا بردم المسافة مع تجارب الرواد.فثمة غنائية سمحت للأصوات النائية ان تتشكل بالموجات اللونية ـ غير المرئية ـ تحت الحمراء أو الرمزية، داخل كل عمل، مهما بدا اقل مهارة في التنفيذ.. مع ان المشترك لا يقلل أبدا من النوايا، فان السيمفونية اللونية لهذا العدد الكبير من الرسامين، يفند، المشهد المروع الحاصل في الواقع، في بلدنا، أو في البلدان التي شملها الخراب. ولهذا فان حكمة الفنان قاسم سبتي «يبدو ان لا خيار لنا سوى الإصرار على الجمال، ويا له من خيار!» تعيد قراءة: لا جديد تحت الشمس، بمنح الجمال رسالته برؤية ما يحدث تحت الشمس، وابعد، برؤية الشمس وهي تعيد نسج الطبيعة جماليا ، بهذا التوحد، المجاور للرؤى الروحية، وقد استبعدت انغلاق السبل، أو المرارات. ولقد أعربت ـ من غير حذر أو تردد ـ لفنان سألني عن تقييمي للمهرجان اللوني، فقلت: للمرة الأولى، منذ عقود، شعرت أني أتجول في غابة خالية من المفترسات! بل وقلت له: هذا المعرض يستبعد وجود الأعداء! ربما لا معنى لهذا الحكم…لو لم نعد قراءة الدخان، والرماد الذي عمل ـ ومازال ـ يعمل على استبدال الشمس بالظلمات، والأرض بالفراغ، والإنسان بالصفر.فالجديد ـ هنا ـ هو ان ثمة نزعة جمالية مازال الفنان ـ العراقي وفي الوطن العربي أيضاـ يمتلكها بسكنها في الإرادة التي شيدت الصروح الحضارية، ورموزها الجمالية.ومع ان الإعلام ـ عامة ـ يتجنب الإعلان عن هذا الشغف بالجمال، في أصوله البكر، والمتجددة أبدا، إلا ان النزعة الواقعية للفنانين وحدها تمتلك (جديدها) في دحض مظاهر التطرف، والعنف، لإرساء مسارات تمنح الجديد قدراته المخبأة في اكتشاف نزعة البناء، وليس العكس. وأنا لا أتحدث عن افتراضات، أو عالم لا وجود له…، فالأعمال الفنية التي صورت الاهوار (أيمن زويد/ جاسم الفضل/ صاحب جاسم/ عماد قدوري/ على مظلوم/ قاسم سبتي/ قاسم محسن/ محمد مسير/ مهند ناطق ..الخ) تجاور النصوص الفنية التي استلهمت الوديان والجبال (وضاح مهدي/ نبيل علي/ حسام عبد المحسن/ مراد إبراهيم/ عباس الزهاوي/ صباح محي الدين/ سلام جبار/ زيد الزيدي …الخ) والأخرى التي استلهمت بساتين النخيل (اسعد أزاد/ احمد حيدر/ اياد بلادي/ أنوار الماشطة/ حيد صبار/ رائد عبد الأمير/ زياد طارق/ زهراء هادي/ عامر حسن/ عاصم عبد الأمير/ صلاح هادي/ عبد الأمير طعمة/ عدنان عباس/ علي الطائي/ علي هاشم/ فلاح الأنصاري/ مؤيد محسن …الخ) إلى جانب المشاهد التي تصوّر الهضاب، السهول، وحافات المدن (محمد شوقي/ قيس احمد/ محمد الكناني/ فاضل عباس/ كاظم علي/ زاهد ألساعدي/ سعد الطائي/ رائد حسن/ بسام زكي/ حذام علي/ ثمينة الخزرجى/ حسن عطوان …الخ) .وهذه ليست مبالغة، ليس بوجود النصوص الفنية، أو هذا العدد الكبير منها حسب، بل بقراءة النزعة الجمالية الكامنة بمنح الواقعية ما حاولت الاتجاهات الحديثة ان تحققه: الفردوس! فألانا لم تطغ بنزعتها الاستحواذية، أو إغفالها للنزعة (البدائية) التي شيّد بها الأستاذ فائق حسن تدشينات الرسم الحديث في العراق، بل عملت على إرساء حتمية ان التنوع وحده يجعل من الجمال حياة لم تخلق فائضة، أو قابلة للتدمير ـ والمحو.