في نقد العقل الاستشراقي

في نقد العقل الاستشراقي
آخر تحديث:

د. رسول محمد رسول

تبدو محاولة الفيلسوف المغربي سالم يفوت (1947 – 2013) في كتابه (حفريات الاستشراق.. في نقد العقل الاستشراقي) أنها تضمُّ مجموعة من المُمارسات المعرفيّة المتعدّدة في نطاق دراسته لظاهرة الاستشراق. والعنوان الرئيس لكتابه هذا يشير، أول ما يُشير، إلى استثمار أحد المفاهيم المركزية التي استخدمها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 – 1984) في خطابه الفلسفي، ابتداء مما ورد في مؤلَّفات له باكرة الصدور مثل: (الجنون والمدنية) لسنة 1961، و(مولد العيادة) لسنة 1963، و(الكلمات والأشياء) لسنة 1966، و(حفريات المعرفة) لسنة 1969.وتكمن الممارسة المعرفية الأولى في إطار التوظيف المنهجي لمثل هذه المفاهيم في دراسة ظاهرة الاستشراق وبمنهج حفري فوكوي. أما العنوان الفرعي لكتاب يفوت فهو يشير إلى ما يرتقي إلى توظيف مفاهيم فوكويّة ضمن سياق البحث لدى يفوت صوب مستوى النقد؛ فمحاولة المؤلِّف المغربي هي ليست مقاربة أوليّة ذات طابع تحليل عابر وحسب، إنما هي محاولة نقديّة تنأى عن التمثيل المنهجي الساذج لتخلق من الطرائقيّات المعتمدة في البحث أدوات أكثر ملاءمة لدراسة موضوعات وقضايا الفكر العربي.

إنّ “النقد” في مضمار الممارسة الفكرية لدى يفوت هو خلخلة وتفكيك يتنكّب الفجوات، ويتصيّد الهفوات، ويفكّك المفاهيم التي يتغذى عليها أو منها الخطاب الاستشراقي. وهو هنا لا يتوجّه إلى الاستشراق بوصفه تأريخياً أو حقلاً معرفياً لما يزل يتمرّغ في دائرة الإشكال وكأنّه غير مؤسّس على أُطر ومنطلقات منهجية، إنما يتوجّه إلى الاستشراق بوصفه قضيّة إبستمولوجية، وكذلك بوصفه أسلوباً منهجياً في دراسة ومعالجة بعض المسائل التاريخية والحضارية والثقافية؛ فزاوية النظر هنا يجب أن تتوجّه، في نظر المؤلف المغربي، إلى دراسة الاستشراق من منظور إبستمولوجي، وهذا يعني التمسُّك بآليّات النقد، وهو السمة الأساسية لكُل دراسة إبستمولوجية.

وفي هذا الإطار، لا بدّ من إلقاء نظرة أولية على ما يركّز عليه عشرات الباحثين وهم يعكفون على دراسة الاستشراق؛ فقد جرت عادة هؤلاء الدارسين أن ينطلقوا من المستشرقين، ومن مواقفهم، وإرجاع عدم موضوعية ما يطلقونه من أحكام وميول ونزعات ورغبات ذاتية بالمعنى القوي لهاته العبارة؛ فكأن ما يقولونه مظهراً لسوء النية أو خبث الطوية مما يجعلهم يدافعون عن شيء مخالف للحقيقة والواقع، ويلتمسون تفسير الوقائع الثقافية والحضارية والفكرية في العِرق أو ما شابهه رغم قناعتهم داخلياً بأن تفسيرهم ذاك هو ليس الحقيقة كما جرت عادة أولئك الدارسين أيضاً على اعتبار الاستشراق فرعاً من فروع المعرفة أو فناً من فنونها أو قطاعاً نظرياً قائم الذات لا شأن له مع باقي العلوم الإنسانية الأخرى كالتاريخ، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا النظرية، فهو ينفرد بموضوعه مثلما تنفرد بموضوعها، ويتفرّد بمنهجه مثلما تنفرد بمنهجها. ومن هنا انصب الاهتمام أساساً على نقد أطروحاته ومواقفه ومقارعتها بأطروحات ومواقف أخرى مقارعة تتم في مستوى المواقف ولا تنفذ إلى عمق الإشكالية!

الاستشراق المعكوس

إنّ عملية تجاوز الإشكالية هنا تتعدى “الاستشراق” و”الاستشراق المعكوس” على حدٍّ سواء. وذلك عبر التركيز على نقد بعض المفاهيم، خصوصاً تلك التي يتم نقلها وإسقاطها تأكيداً لوحدة التاريخ، ووحدة مراحله وأطواره وتجانس اتجاهه من الماضي إلى المستقبل، والتركيز على بعض المحاور الأساسية التي تستقطب استقطاباً إشكالياً مُختلف النصوص الاستشراقية التي تشكّل بؤر مناحيها؛ بل والتركيز على علاقة الاستشراق بالمركزيّة، وكذلك بالسُلطة الاستعمارية من خلال إبراز العناصر المعرفية والإيديولوجية في الاستشراق، وكيف تتخفّى السُلطة والمؤسسة في خطابه ذي الوجه المعرفي.

إنّ الاستشراق في نظر المؤلِّف المغربي هو خطاب أو إنشاء، لكنه الخطاب الذي لا يعكس حقائق أو وقائع؛ بل يصوّر تمثُّلات أو ألواناً من التمثيل؛ حيث تتخفّى القوة والمؤسّسة والمصلحة. إنه خلق جديد للآخر أو إعادة له على أساس من التصوُّر والتمثيل، مما يجعل من الاستشراق “موضوع + معرفة”، بينما يظل موضوعه الذي هو “الشرق” موضوع واقع لا تربطه به صلة تطابق أو انعكاس، وأن بنية الاستشراق تخفي قوّة أو سلطة أو إرادة قوة بالمعنى النيتشوي – نسبة إلى الفيلسوف فريدريش نيتشه – ومن بين مراميها طمس موضوع الواقع وإعادة إنتاجه إنتاجاً تثوي فيه السُلطة وتتخفّى فيه المؤسسة.

ولما كان سالم يفوت قد اعتمد على الحفر الفوكوي منهج إسناد له في دراسة الاستشراق، وأفاد كثيراً من المعالجات التي قدّمها ميشيل فوكو في دراسته للسُلطة، فإنه كذلك يعالج السُلطة التي تثوي وراء الخطاب الاستشراقي من خلال تحليل ونقد مفهومها. وكان فوكو تناول موضوعة “السُلطة” في كتابه (إرادة المعرفة) لسنة 1976، وناقش وبرؤية نقديّة الأُسس الشائعة للنظرية التقليدية للسُلطة من خلال خمسة محاور هي: امتلاك السُلطة ومركزيتها وتبعيّتها وأسلوب مُمارستها وشرعيتها. وخلُصَ فوكو فيها إلى تعريف السُلطة بأنها “علاقات القوى المتعدّدة التي تحتل البناء الاجتماعي بكامله، والتي تؤلّف محاور الصراع ومقاومة لا محدودة يشكّل كُل محور منها مرتكزاً لعلاقة سلطويّة تتضمّن مقاومة موضوعية ذات طابع خاص، ومن ثمّ لا يمكن القول إنّ ثمَّة فئة مُعيّنة خارج السُلطة لأنّه لا داخل ولا خارج في هذا الموضع العلائقي، وكذلك ليس هناك حسم نهائي؛ بل حالة حرب عامّة، وصراعات موضعية، مع انتصارات ليست نهائية”.

السُلطة إذا هي استراتيجية أكثر مما هي ملكيّة، فهي “تمارس” أكثر مما “تمتلك”، وليست حقاً تحتكره الطبقة السائدة؛ بل هي مفعول مُجمل مواقعها الاستراتيجية، وأن “السُلطة” غير محدّدة الموقع؛ بل هي “منتشرة” لا تنحصر في مكان مُميز. 

وهنا يتمثل الفرق بين المحاولات الرامية إلى جعل الاستشراق مجرّد “قطاع نظري” من “بنية فوقيّة”، مع التأكيد على طابعه الطبقي التاريخي، واللجوء إلى مفهوم الوعي المغلوط عند الحاجة، وبين المحاولات الجديدة الرامية إلى اعتبار الاستشراق “تشكيلة خطابيّة” برزت على أرضيتها، من حيث هي تربة معرفيّة، مواقف شتى تلتقي في الأساس النظري الواحد كـ “مواقف”، أي: إن الاستشراق استجاب للأساس النظري، بمعنى للثقافة التي أنتجته، أكثر مما استجاب لـ “إرادات الأفراد” المفكّرين، ورغباتهم، واختياراتهم الأيديولوجية المبيّتة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *