كتاب جديد يحيي نصوصاً قديمة

كتاب جديد يحيي نصوصاً قديمة
آخر تحديث:

عبد الزهرة زكي

في القرن الرابع عشر قبل الميلاد وضع شاعر بابلي نصاً طويلاً، وبدا هذا النص غريباً في سياق ما مكتشف حتى الآن من النصوص وطبيعة موضوعاتها حينذاك، لقد وضع ذلك الشاعر نصاً في محنته الشخصية، وهي محنة بعض البشر الآخرين بمختلف العصور، بمواجهة الاصطدام بعالم من العقوق والنكران والضغائن وسوء الطوية:

علناً، في مجمع الناس، شتمني عبدي.

بيتي

افترى عليَّ العوام.

كلما رآني من يعرفني

ابتعد جانباً.

…..

إلى قائل الخير عني

مفتوحةٌ حفرة.

المتكلمُ بالافتراءِ عني

موضوعٌ على الرأس.

المتحدّثُ بالنميمة عني

يكون الإله عضيده.

إلى من قال: (كفى)

الموت مُسارع.

الذي يرجم بما لا معنى له

يحفظ الملاك الحارس حياته.

لقد وضع هذا الشاعر قصيدته، وهي نص طويل يمكن أن يكون كتاباً بمقايس عصرنا، وجعلها نشيداً يتضرع به إلى الإله مردوخ، كبير آلهة بابل، ويشكوه فيه ما حلَّ به. إنه نص في العذاب الشخصي وأزمة التعايش مع الآخرين، في تعاسة المصير بالنسبة لفرد وجد نفسه وقد:

هجرني إلهي، في ملاذه

اختفى.

…….

انسلّ الملاك الحارس الرؤوف الذي

كان بجانبي.

هذا النص اختار له مؤلفه تسمية (لأمجدِّنّ سيد الحكمة)، وسيد الحكمة هو الإله مردوخ. إنه نص يشكو غياب العدالة من دون قول ذلك، لكنه يفصح عن الكثير من مشاعر الظلم التي يمكن أن يحياها إنسان تحت وطأة الشعور بغياب العدالة.

لست هنا بموضع العرض للنص ولمحنة صاحبه، لكن قراءة النص كاملاً توحي أن مؤلفه كان سيداً مطاعاً، وفقد في لحظةٍ هيبتَه وسلطته وقيمته الاجتماعية، وانحدر إلى نكد في أسفل درك العيش والحياة.

يبدأ النص بالتمجيد فعلاً للإله مردوخ قبل أن يخلص المؤلف للإفاضة بما يعانيه، وما يكابده، إنه نص نادر بين متون النصوص القديمة في تكريس التأليف الأدبي للتعبير عن معاناة شخصية، وهي معاناة ستجد تكرارها دائماً، وستجد التعبير عنها متواصلاً في آدابنا وآداب الإنسانية بشكل عام.

هذا النص الذي اكتشف منذ القرن التاسع عشر على أيدي المنقبين بقي مثار اهتمام (علماء المسماريات الذين توالت قراءاتهم له ودراساتهم عنه باللغات الإنكليزية والألمانية والفرنسية. وللأسف الشديد لم تكن هناك ترجمة عربية مباشرة لهذا النص فيما عدا مقتطفات من بضعة مراجع أجنبية عنه)، بموجب ما يؤكده الدكتور نائل حنون بكتابه (نصوص مسمارية تاريخية وأدبية) الذي قدم من خلاله أخيراً ترجمة عربية أصيلة عن المسمارية لهذا النص النادر، ونائل حنون خبير ومختص وعارف بالكتابة المسمارية. لقد عدتُ فعلاً لعدد من الترجمات (كاملة أو مجتزأة)، بعضها يورد في العنوان (رب الحكمة)  بدلاً من (سيد الحكمة) ومررت بإشارات قليلة سابقة لهذا النص باللغة العربية ولم أجد بينها ما يؤكد أنها (أي النص بالترجمات السابقة والإشارات) تمت عن اللغة الأصل للنص، كما تغيب عنها الإشارة إلى المصدر المترجم عنه.

الغربيون، في معرض ترجماتهم النص، أشاعوا له تسمية أخرى حين أطلقوا عليه اسم قصة (أيوب البابلي)، وهي تسمية مقارنة تريد التذكير بمحنة ومعاناة النبي أيوب. لكن كتاب الدكتور نائل حنون يعيد للنص تسميته الأصل (لأمجدِّنّ سيد الحكمة).

وكما تمزقت حياة هذا الرجل وتحطمت بهول معاناته فإن النص، واجه هو الآخر، تمزقاً وتشظياً حيث (لم يعثر على هذا النص في نسخة كاملة، وإنما وجدت أجزاؤه على ألواح وكسر كثيرة تعود إلى نسخ متفرقة بابلية وآشورية اكتشفت في مواقع مدن قديمة في مناطق جنوب العراق وقريبا من بغداد إلى جنوب تركيا). 

لقد جرى، حتى الآن، اكتشاف سبعة وعشرين نسخة من هذا العمل الأدبي اعتمد العالم العراقي نائل حنون على معظمها في قراءة وترجمة النص الذي قدمه لنا بكتابه الأخير الصادر عن سلسلة (دراسات فكرية) من جامعة الكوفة، وهو جهد استثنائي للدكتور وللسلسلة ولجامعة الكوفة.

انتشار نسخ هذا النص، الموضوع باللغة الأكدية المكتوبة بالحرف المسماري، في مدن كثيرة جرى العثور فيها على ألواح أو كسور دوّن عليها النص أو جزء منه، هو تأكيد على شيوعه وتكريس الحاجة إليه في الأقل ضمن مدن حضارات سومر وبابل وآشور. إنه نص معنيٌّ بـ” معاناة الأخيار والجيدين من البشر”، وهذا اهتمام لم يكن مألوفاً في الآداب القديمة التي ركزت جانباً كبيراً من منتجها الأدبي لمعاناة ومصائر الأقوام والمدن فيما يندر التعبير عن المعاناة الشخصية إلى حد يكاد تختفي معه حتى أسماء مؤلفي النصوص التي تبدو في مآلها كما لو أنها أناشيد جماعية. يتحدث المؤلف في هذا النص عن محنته، وبصوته الشخصي، مقابل جماعة الآخرين السيئين:

وبدنهم واحد

يتآلفون في القرار.

متوحشو القلوب، ملتهبون

كالنار.

بالكلام المعادي والمعارضة اتفقوا 

عليَّ.

فمي النبيل كما لو بلجام

غلفوا.

شفتاي اللتان انعقدتا

صارتا تحكيان بلغة الأصم.

صيحاتي العالية إلى صمت

تحولت.

رأسي المرتفع انخفض

إلى الأرض.

ذهني المتماسك، الرعب

أضعفه.

…….

أنا من كنت أتمشى بفتوة

تعلمت الزحف.

أنا الفخور

تحولت إلى عبد.

ونص (لأمجدِّنّ سيد الحكمة) هو واحد من عشرين نصاً باللغتين السومرية والأكدية تضمنها كتاب الدكتور نائل بـ” الترجمة المباشرة عن الأصول المسمارية مع الشروحات والتعقيبات اللغوية” التي تابعت النصوص ببعدها وطبيعتها التاريخية والأدبية. ومعظم هذه النصوص يقدمها الكتاب للقارئ العربي للمرة الأولى، سواء بتكاملها (النسبي) أو بنقلها مباشرة عن الكتابة المسمارية ولغتيها السومرية والأكدية ولهجاتهما المختلفة باختلاف المدن والعصور ما يعطي الكتاب أهمية استثنائية خصوصاً أنه من نتاج عالم وأكاديمي كبير.

لقد كان يمكن لصدور كتاب مثل كتاب الدكتور نائل حنون (نصوص مسمارية، تاريخية وأدبية) أن يكون حدثاً ثقافياً جديراً بالوقوف عنده لكن، للأسف، لم يحصل هذا واقعاً.هل يمكن أن نؤشر شحوب الجهود المؤسسية والأكاديمية المعنية بالتراث الرافديني سبباً في ضعف الاهتمام بحدث كصدور هذا الكتاب؟إن قسماً للآثار في هذه الكلية أو تلك لم يعد كافياً أمام الحاجة الحقيقية للجهد الأكاديمي المطلوب، بحثاً وعملاً وإعداداً لكفاءات وخبرات تتنامى الحاجة إليها.

لا يمكن الركون للكسل ومواصلة الاعتماد على جهود باحثين ومنقبين وعارفين باللغات القديمة من علماء غربيين. هناك جهود أخرى للبحث والدراسة عما بعد التنقيب يجب أن تضطلع بها مؤسسات ومراكز دراسات جامعية وبإنفاق حكومي يقدّر حجم المسؤولية إزاء التاريخ والحضارة.تكاد تغيب مثل هذه الجهود فيما يجب أن تحضر جهود موازية من الثقافة العراقية للعمل من أجل سد ما يمكن سده من فراغ والضغط من أجل تنمية وتطوير وتجديد حيوية مؤسسات حكومية وجامعات ومتاحف بما يناسب حجم  المسؤولية.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *