كرامة الإنسان وكرامة الأدب

كرامة الإنسان وكرامة الأدب
آخر تحديث:

ياسين طه حافظ 

يوماً كنا في جلسةِ حديث، صديق يكتب نقداً وسوى النقد، وأنا في مكتب المجلة التي أعمل فيها. دخل متأدب جاوز الشباب يحمل كتاباً صدر له. قدمه محيياً بقوله: آمل أن اسمع منك رأياً. دعوته للجلوس تأدباً فجلس ورحت اتصفح أوراق الكتاب وأنا أعرف مستوى الكتابة . وضعت الكتاب باعتزاز فوق اوراقي. حييته وتمنيت له التوفيق 

لم أقل أكثر من هذا لكن صديقي استاء وقال الى متى هذه المجاملات؟ قل له كتاب سيء وليبحث له عن عمل آخر غير الكتابة. أنا أعرف مستواه، لا يرجى خيرٌ منه!

فقلت له : صحيح ما تقول وأنا لا انتظر أيضاً. ولكن تعز عليَّ كرامة الإنسان وسلامتها. صعب تؤذي إنسان جاءك ينتظر لطفاً. نحن بأفعال كهذه نسبب جرحاً لا يُنسى. هو سيدرك قيمة عمله يوماً وسيرى لا جدواه. ثم أن العالم  مملؤ بالجيد وسواه والدنيا جمّاعةُ اشكال..

هذه المسألة ذكرتني بمسألة اخلاقية كثيراً ما نتساهل في رعايتها وكثيراً ما نستهين بها : ان كرامة الإنسان يجب حمايتها. صالحاً كان هذا أم طالحاً، أديباً أو غير أديب، محامياً أو عامل مصنع … كرامة الإنسان أمانة لدى الآخرين. الخطأ سببه أما سهو أو جهل أو مرض نفسي أو سوء فهم أو تربية. لا تساهل مع الخطأ ولكن ليكن هناك عازل بين خطأ الإنسان وكرامته. الثقافة توجب إدراك ذلك. والسلوك المدني والديني لا يرضيان بامتهان الإنسان. حين تلقى الامام علي الطعنة من قاتله، أوصى : … ولا تمثلوا بالرجل! 

المهم بالنسبة لي ليست “لا تمثلوا” الاهم بالنسبة لي هي “بالرجل”! فقد احترم إنسانيته ورجولته وعزلهما عن الخطأ أو الجريمة. 

هذا المنطق غالباً ما تتجاهله حماسات الثأريين في الانقلابات او الثورات. فليس يروي عطشهم، الوحشي في جانب منه، الا سحق المقابل، الا محقه، الا الدوس على رأسه، الا رفسه والبصاق عليه! لا حضور  لإنسانيته بعد ولا كونه من خلق الله. 

أذكر يوماً، في أعقاب 1958  وبعد تنفيذ قانون الاصلاح الزراعي – ولسنا في موضع انتقاد للقانون أو عدم رضا- أن أحد ابناء شيوخ الجنوب، بعد مصادرة أراضيهم وقصر كبيرهم، ان هذا الابن كان يحار كيف يكسب عيشه. فاستأجر أخيراً مقهى في الكسرة ببغداد، وجلس كالعادة أمامه صينية يلقي فيها الزبائن ثمن الشاي وهو “عشرة فلوس”. هذا الرجل ، عزيز الجانب، الذي ذُلّ ، كنت ألاحظه يدير وجهه جانباً حين يلقي أحدهم قطعة لنقد في الصينية أمامه.

لست مدافعاً عن الإقطاع والإقطاعيين فأنا أعرف السوء كله. ولكنهم ليسوا من صنع الإقطاع. صنعت الإقطاع ظروف وهم ورثة نظام. وليكونوا ورثةً سيئين وجاء نظام جديد. الواجب انهم يعزلون ويمنحون مساعدات أو عملاً ، فيعاقَبون بما لا يحول عن العيش وحفظ الكرامة. كرامتهم ليست ملكاً لهم وحدهم. هي بعض من الكرامة الإنسانية الكبيرة واحترامها احترام لإنسانية الإنسان!

المعروف لنا جميعاً ان الإنسان مخلوق متحول متغير بين الحكمة والحمق، بين اللطف والشراسة، بين الحلم وجنون الثأر وبين الفهم وسوء الفهم. وحالة الخطأ واحدة من حالات، توجب رداً أو ردعاً. ولكن هذا الرد يجب ان لا يكون لكل إنسانيته، لجيده ورديئه. 

وفي بعقوبة الخمسينيات، حدثني يوماً رجلٌ انه تزوج بغياً وكانت معه تلك الفاضلة الصالحة. قلت له: هل تسمح لي بحديث شخصي معها ؟ قال: دعني استأذنها … فرضيت. 

وجلسنا معا قلت لها: أنت مثال محترم ونادر للإنسانية التي تنجو والآن أنتِ مثالٌ عزيز ومحترم للطهر والوفاء. والجيران يتحدثون بكرم وثناء عنكِ هل أعرف لِمَ ….؟ قالت: لا تكمل. أنا أعرف ما تريد. وسأختصر عليك الكلام:  

أنا لم أكن اشعر بأني كنت ارتكب خطأً أعرف أني كنت أعيش هناك، ذلك النوع من العيش. نعم كنت أرى الأفضل، ولكن ماذا يستطيع شحاذ ان يفعل وهو يرى المتمكن المرفّه الغني صاحب النعمة ؟ هل يستطيع ان يبادله المهنة؟ أقول هل يستطيع ان يكون مثله؟ أهو أمر يسير ممكن أن يكون الشحاذ صاحب نعمة وخير ؟ أجب أنت لو استطاع لا أظنه سيتأخر دقيقة واحدة ! قبل كل الكلام والنصح لتكن أمنياتنا ان تكون للناس ظروف عيش تحفظ كراماتهم وتسلم فيها إنسانيتهم من الاذى… 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *