كلّكم يبكي .. فمن سرق المصحف ؟ *

كلّكم يبكي .. فمن سرق المصحف ؟ *
آخر تحديث:

 بقلم:د. رضا العطار

جلس ابو الحسن الأشعري يلقي دروسه على تلاميذه في مسجد البصرة في القرن الرابع الهجري. فأفاض الشيخ واجاد. لكنه ما ان انتهى من الدرس وتلفت حوله حتى اكتشف انه فقد المصحف. وقبل ان ينطق لسانه بسؤال كانت آيات التقوى والورع والخشوع ترتسم على وجوه التلاميذ، وكانت الدموع تبلل منهم اللحى ! فعجب الشيخ مما رأى وشاهد وتساءل في دهشة : كلّكم يبكي .. فمن سرق المصحف ؟

هذه القصة الطريفة تفرض نفسها عليّ في وطأة ضاغطة كلما أجلت البصر حولي في مجتمعنا العربي، فلا اجد الا كذبا وزيفا ونفاقا، يغلفه صدق وانانة واخلاص – انه انفصال الشخصية الظاهر الذي لا تخطئه العين العابرة ! … انني اتذكرك يا ابا الحسن صباح مساء، كلما اجيل النظر في اي مجال من مجالات الحياة التي يؤمن فيها المرء بافكار ويسلك سلوكا يتناقض مع هذه الافكار فيحدث هذا (الصدع) العجيب بين الفكر والواقع وبين النظر والعمل الظاهر والسلوك المعوج وبين الاعتقاد من ناحية والحياة من ناحية اخرى. وافهم ما الذي يعنيه الفيلسوف الالماني هيجل عندما قال:

( ان الامانة والوداعة وبراءة الوجه لا علاقة لها بالاخلاق )

انفصام الشخصية، مرض بارز جدا في مجتمعنا العربي من الراس حتى القدم، ومن القمة حيث تتربع الحكومات الى القاع حيث يقف المواطن. كلنا يعيش في عالمين منفصلين لا يلتقيان مهما امتدا … والامثلة لا اخر لها. اقرأ صحف الصباح تجد الطيران الاسرائيلي يقصف المخيمات الفلسطينية، فيبدأ العويل يشق عنان السماء في الوطن العربي كله. فاذا كنتم حقا على هذا القدر من الوعي والتضامن فمن اضاع فلسطين ؟

المجتمعات العربية كلها تمجد الحرية، وتتغنى بالتحرر، والسجون تبتلع الاحرار يوما بعد يوم وهي كلها تتحدث عن الديمقراطية وتفاخر بها ولم تمارسها يوما !! وهي تلوح بقبضتها القوية للدول الامبريالية مع انها لا تعيش الا بها وعليها … وهي تقف لتعلن في غضب انها لن تتخلى عن قضيتها الكبرى والمصير المشترك، ثم تعود الى النوم من جديد، معتمدة على ذاكرة الجماهير المهلهلة ! لكن اياك ان تعتقد اننا نلقي المسؤولية على الحكومات ونعفي الافراد المظلومين – انهم على دين ملوكهم مصابون ايضا بانفصام الشخصية. والكل في هذا الهم سواء

وكم مرة ضبطت فيها طالبة (محجبة) تغش في الامتحانات، وكم مرة نبّه طالبا تكاد لحيته تحجب ورقة الاجابة ان يكف عن النظر الى ورقة زميله. وهذه كله يعني:

لا تسرق غيرك ! ولا تتلصص على الناس … يسألونك: وما دخل ذلك بالدين.

فالطالب الذي يغش في الامتحان هو نفسه التاجر الذي يرفع السعر وينقص الوزن ويبتز زبائنه – لكن اذا اذًن المؤذن هرع الجميع الى المسجد حتى لا تفوتهم الصلاة ! انه انفصام بين الاعتقاد والسلوك.

ولا يقتصر هذا الانفصام الغريب على مجال السياسة والدين انما يتعداه الى مجال الفكر والعلم. ولا انسى يوم وقف استاذ مبجل يتحدث عن الدور الذي ينبغي على المفكر ان يقوم به في مجتمعه وواجباته نحو امته – ثم مال على المسؤول قائلا : كم تدفعون نظير المحاضرة ؟ . مثله مثل العالم الذي علق في سيارته (خرزة) زرقاء تقيها عين الحاسدين. شخصية هنا وشخصية هناك دون ان يمن الله عليهما

والعجيب ان انفصام الشخصية في بلادنا لا يقتصر على (فئة) ولا طبقة، فسواء كان الفرد عندنا من علية القوم او وسطهم او ادناهم فهو يعاني من هذه الشخصية. وشعارنا واحد توارثناه من الاجداد ( قلوبنا مع علي وسيوفنا مع معاوية ) – عقولنا في واد وسلوكنا في واد آخر. كلنا يحمل شخصيتين مستقلتين – بينهما برزخ لا يبغيان –

انظر اليه وهو ينتقد الوجودية مع انه لم يقرأ حرفا واحدا عنها، وكذلك تراه يرفض الماركسية والبرجماتية والليبرالية والمادية … الخ بوصفها جميعا افكار مستوردة من الغرب ( الكافر ) مع انه يتحدث في ميكروفون الغرب ويستقل سيارة الغرب ويشاهد تلفزيون الغرب ويسافر في طائرة الغرب لكنه لا يريد ان يفهم هذا الفكر نفسه، ليظل سؤال الاشعري حائرا في سمائنا … سلهم يا ابا الحسن ( كلكم يبكي ، فمن سرق المصحف ) !! ذلك لانهم يقولون ما لا يفعلون.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *