ماهو الأدب ؟

ماهو الأدب ؟
آخر تحديث:

القسم الأوّل

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

   أقدّمُ أدناه ، وفي أقسام متسلسلة لاحقة ، ترجمة للفصل الأوّل من الكتاب المعنون ( الأدب : لماذا يهمّنا ؟ Literature : Why It Matters ? )

لمؤلفه البروفسور روبرت إيغلستون Robert Eaglestone  . الكتاب منشور عام 2019 ، ويمكن للقارئ الشغوف مراجعة كتابي المترجم ( الرواية المعاصرة : مقدمة وجيزة ) المنشور عن دار المدى لكي يطلع على تعريف مسهب بالبروفسور روبرت إيغلستون وأعماله المنشورة .

   المترجمة

   مرحباً . المعذرة . هلّا أخبرتَني أين أنا ؟

   ( تلوّحُ بيدها )

   في بلدنا ، هذه هي الطريقة التي نقولُ بها ( أهلاً )

   إنّها تَعبيرٌ حركيّ بين شخصيْن

   إنّها بمثابة تحريك قرص الهاتف ( بغية حثّ التواصل ، المترجمة )

   ……………………

   مرحباً . المعذرة . هلّا أخبرتني أين أنا ؟( 1 )

   هذه التلويحة المُرحّبة مأخوذة عن الفنّان التجريبي الأمريكي ( لوريل أندرسون ) . إنها قصيدة ؛ لكنها أغنية ونوعٌ من الفنّ الأدائي في الوقت ذاته ) الفنّان هنا يلوّحُ بساعده مثلما يفعل المرء عندما يدير قرص الهاتف ) . هل هذا أدبٌ ؟

   لاأحد يعرف حقاً . لدينا نمطٌ من فكرةٍ مضبّبة وغير محدّدة الملامح بشأن ماعساه يكون الأدب ؛ لكن عندما نحاولُ الإمساك بهذه الفكرة بقصد تعريف الأدب فيبدو الأمر وكأنّ هذه الفكرة تنزلق من أيدينا وتستعصي على التعريف .

   لنتعاملْ، على سبيل المثال فحسب ، مع فكرة أنّ الأدب هو – ببساطة –  مادة ” مصنوعة ” من التخييل Fiction ؛ فماعسانا إذن نقول بشأن الكتابة المؤسّسة على وقائع تأريخية ؟  تستند روايات ( هيلاري مانتل Hilary Mantel ) التأريخية على وقائع حقيقية ، والعديد من الكُتّاب المسرحيين يستخدمون نصوصاً حَرْفية بذات ترتيب الكلمات الواردة في المقابلات أو التقارير الحكومية ويوظّفونها في مسرحياتهم. بالإضافة لذلك فإنّ جذر مفردة التخييل لايعني ” غير حقيقي ” فحسب ؛ بل هو متحدّرٌ من المفردة اللاتينية fingere التي تعني ( أن تشكّل ، أن تمنح هيئة ، أن تضع في ترتيب ذي ملامح محدّدة ) . إنّ كلّ كاتبٍ ( سواءٌ كان عالِماً يسجّل مشاهداته التجريبية ، أو سياسياً يدبّج خطبة ، أو كاتب إعلانات عامّة توضّحُ التعليمات التي يتوجّب وفقها إستخدام الهاتف – مثلاً – ) يشكّل ويختارُ كلماته المناسبة ، وإذا كان الأدبُ يخبِرنا شيئاً بشأن الجوانب الأكثر أهمية في ذواتنا ، والكيفية التي نحنُ عليها في واقع الحال ، أو – لنقُلْ على سبيل المثال فحسب – كيف يبدو عليه الوقوعُ في أسر الحب ؛ فهل أنّ مثل هذه الأمور ” ليست حقيقية ” متى ماوردت في قصيدة أو رواية ؟       

   أو تمعّنْ ملياً في الفكرة التي تقولُ أنّ الأدب يخبرنا قصّة ، يستخدمُ السرد . ثمة ، من جانبٍ ، نصوص لاتُحصى نراها خليقة بأن تكون أدباً وهي لاتلجأ للسرد : القصائد الغنائية لاتخبِرُنا قصصاً ، ورواية ( ديفيد ماركسون David Makson ) المسمّاة ( هذه ليست رواية This is Not a Novel ) المنشورة عام 2001 مكوّنةٌ من سلسلة من العبارات ، هذا على سبيل المثال بين أمثلة أخرى كثيرة . في الجانب الآخر ، يوجد العديد من النصوص التي لانحسبُها في عِداد الأدب برغم أنها تستخدمُ السرد . الأطروحات الخاصة بالبحث العلمي هي سرديات في نهاية المطاف .

   سرد القصص ، إذن ، ليس بالخصيصة المميزة التي تنفردُ بها الروايات ؛ لذا فليس بمستطاعها تعريف الأدب .

   ربما يكون الأدبُ محض فاعلية كتابية ؟ ليست هذه الخصيصة صحيحة بالضرورة لو تأمّلنا في – دعونا نقُلْ – شاعر ينشجُ بصوتٍ أقرب للضوضاء المنفّرة أو يصطنعُ إيماءة ما ، أو لو تفكّرنا في دور الصمت على المسرح . ثمّة أيضاً ” الروايات الغرافيكية ( المصوّرة ) ” التي تجمعُ النصوص بالصُّوَر، وشاعت أيضاً بعض الألعاب الحاسوبية التي تبدو غالباً مثل الروايات ( تُدعى روايات اللودو Ludo – Fiction ) . هنا ، نعود ثانية لتأكيد الحقيقة التالية : الكتابة تغطّي مجالاتٍ أوسع مدىً من الأدب . توجد أيضاً فكرةٌ تقولّ أنّ الأدب يعني ” الكتابة العظيمة ” فحسب ( الأدب هنا في مفردته الإنكليزية يُكتبُ بحرف كبير في بداية المفردة ، هكذا : Literature  ) ؛ لكن ، وعلى الشاكلة التي سأناقشها في موضعٍ آخر من هذا الكتاب ، فإنّ مايجعلُ عملاً أدبياً ما ” عظيماً ” و ” ينبغي قراءته ” من جانب كلّ مثقّف ( أي أن يكون جزءاً من ” المُعتَمَد الأدبي Literary Canon ” ) سينتهي به الأمر في نهاية المطاف ليكون عملاً إشكالياً مثيراً للخلاف وأبعد مايكون عن الوضوح الكامل .

   الإنعطاف نحو التأريخ بغية توظيف أمثولاته ليس بالمسعى الذي يأتي هو الآخر بما يفيدُ في تعريف الأدب . صارت مفردة ” الأدب ” تُستخدَمُ في الثقافة الإنكليزية خلال القرن الرابع عشر لتعني شيئاً يشي بِـ ”  إمتلاك معرفة بشأن الكتب بعامة ” . أعمال إسحق نيوتن كانت في خواتيم القرن السابع عشر تُدعى ” أدباً ” برغم أننا نصنّفها في عداد الكتابات العلمية في وقتنا الحاضر، ويُصدٌّقُ الأمر ذاته مع أعمال الفلسفة، والتأريخ ،،،، ، ولم يشهد الأمر مخالفة للسائد حتى حلّ منتصف القرن الثامن عشر عندما شرع الناس في تصنيف الفاعلية الكتابية تبعاً لأنماط مختلفة ، ومنذ ذلك الحين فحسب إكتسب ” الأدب ” معناه الغامض – الذي يسود راهناً – ويُصنّفُ بموجبه الأدبُ إلى روايات وقصائد ومسرحيات . هذا شيء يبدو متفقاً مع التأريخ الفكري للإنسان؛ فالأصناف التي نستخدمها لتعريف الأشياء – من المصطلحات النحوية حتى الأنواع الحيوانية – إنما تأتي متأخّرة بكثير عن الأشياء ذاتها .

   التعريف يعني وضع حدودٍ ما : هذا هو أصل مفردة ” التعريف ” المشتقة من المفردة اللاتينية finis التي تفيدُ معنى النهاية ، المحدودية ، الإنتهاء من عمل شيء ما ؛ غير أنّ الأدب يبدو غير محدود ، ولانهائي الآفاق ، ولأنّ كلّ عمل أدبي يستثيرُ إستجابة ما – غِبطة ، دهشة ، إفتتان ، ضجر ، غضب –  فهو ، دائماً ، عملٌ مفتوح الآفاق ولانتوقّعُ له أن يأذن بنهاية . يبدو أنّ الأصناف ( التعريفية ) العامة  التي نقسرُها على الأدب لاتصحُّ معه ، وثمة دوماً – على سبيل المثال – إستثناءاتٌ ( أمثلة صارخة ) تأبى الإنقياد لأي مسعى تصنيفي .

   توجد أيضاً معضلة أبعد في مداها من كلّ المعضلات التي يمكن أن تواجهنا في تعريف الأدب . عندما تقرأُ ( عملاً مصنّفاً في فئة الأدب ، المترجمة ) فأنت لاتواجه الأدب في شكله التجريدي – أنت تواجهُ نصاً محدّداً تمكّن – بطريقة مثالية – من إختطافك والإيقاع بحواسك في شباكه الآسرة ، وقد يكون هذا العمل ( الأدبي ) رواية للكاتبة جَي. كَيْ. رولينغ ، أو الكاتب ليو تولستوي ، أو قصيدة لِـ روبي كاور أو سيلفيا بلاث . إنه لأمرٌ أكثر يُسراً إلى حدود بعيدة أن تشرح للآخرين لماذا حاز عملٌ أدبي ما  – دون سواه – على اهتمامك ومَلَكَ عليك حواسك ( قد تتماهى مع الشخصيات الرئيسية فيه أو مع مواقفهم المسرودة في العمل الأدبي ، أو ربما قد تكون أمّك قرأته لك عندما كنتَ لم تزل طفلاً صغيراً بعدُ ،،،،، ) ، وفي الوقت ذاته ، وبالمقارنة مع إهتمامك الشخصي الخاص ، سيكون أمراً عظيم المشقة إذا ماحاولنا توضيح لزومية كون ” الأدب بعامة ” مستحقاً لأن يحظى بالإهتمام الجمعي . هذا هو المسوّغُ الذي يدفعُ بعض النازعين لتأكيد توجّهاتهم التحريضية المتقنّعة وراء قولهم بأنّ  الأدب ( وهم يعنون بصورة مضمَرة  ” الأدب بعامة ” ) كينونةٌ ليس لها وجود .

   إذن ، سيكون أمراً مفهوماً ومنذ البدء إذا ماوجدنا أنفسنا – بعض الشيء – ضائعين في متاهة ونحنُ نقرأ في كتابٍ تَسَمّى بعنوانٍ كبير ينطوي على جرعة ليست بالقليلة من الرهبة ( الأدب : لماذا يهمّنا ؟ ) ، وقد يتجوهرُ شكل الضياع هذا في التساؤل الذي لاينفكّ يطرق أدمغتنا كل حين ونحن نقرأ الكتاب : ” عفواً . هلّا أخبرتَني أين أنا ( من كلّ هذا الذي أقرأ  ؟ ) ” . كيف يمكننا معرفة السبب الذي يجعلُ الأدب مهمّاً لنا عندما لانملك أكثر من معنى مضبّب بشأن مايمكن أن يكونه ؟                 

  أرى أنّ الرغبة في بلوغ تعريف للأدب هي أمرٌ مُعادلٌ لمقاربة التساؤل أعلاه بطريقة مخطوءة لأنها تنطوي على رغبة في إستخدام الطرائق التي يستخدمها العالِمُ في تصنيف الطبيعة ، أو تلك التي يسعى لها المحامي الذي لايقبل بأقلّ من التحديد الصارم والبعيد عن اللبس لكلّ شيء . هذه المقاربات متى ماأتّبِعَتْ مع الأدب فإنها تغفلُ – بالضبط – الجوهر الأكثر أهمية في موضوعة التعريف كلها . يقول الفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو في عمله الأشهر المسمّى  فنّ الشعر Poetics أنّ أصل الشعر هو التمثّل Representation  أو التقليد Imitation ( المفردة الإغريقية المستخدمة هي المحاكاة Mimesis ) ، وأنّ هذا الأصل ” يُخلقُ بصورة طبيعية في الأفراد منذ الطفولة ” : نحنُ نحبُ في العادة أن نقلّد الآخرين ، و” نجترحُ متعة كبرى بصورة طبيعية في التمثّلات ” .  يمثّل كتاب ( فنّ الشعر ) في الجزء الأعظم منه مرجعاً دليلياً إلى كيفية كتابة الشعر والدراما ، وقد كان للإغريق أفكار مختلفة للغاية عن أفكارنا بشأن ماقد يكون عليه الأدب ؛ لكن يمكننا التعكّزُ على رؤية أرسطو في أنّ الأدب ليس شيئاً سكونياً ” خاملاً ” بل هو فعلٌ نحقّقه أو حرْفةٌ نصقلها ونطوّرُها . الأدب أقربُ إلى أن يكون فعلاً من أن يكون محض مُسمّى : أن تستطيب التمشّي في طريقٍ ما فعلٌ يتمايز جوهرياً عن مجرد تتبّع مسارك المفترض على خارطة ما ، وأنّ بهجة شمّ عبير الأزاهير الفوّاحة في سياجٍ مثقل بجميل الألوان الباعثة للبهجة هو ليس بالأمر المماثل لمعرفة المسمّيات العلمية لتلك الأصناف النباتية . البهجة بالأشياء الجميلة وامتلاك حسّ التقدير العالي لها قد يكونان أمرين عصييْن على التعريف ؛ لكنهما حقيقيان .

   لذا أنا أبتغي هنا إستخدام مقاربة مختلفة وأكثر ودّيةً من تلك التي يلجأ لها العالِمُ والمحامي بشأن تقدير أهمية الأدب في حياتنا، وهي مقاربةٌ تسعى لأن تعبّر عن الطريق ولاتكتفي بأن تكون مسلكاً مؤشّراً على خارطة، وتركّز على تقدير عبير الأزاهير الفوّاحة بدلاً من الإكتفاء بجعلها نماذج مجفّفة وراء الزجاج . إنّ هذه المقاربة ليست بأقلّ دقّة من سواها ؛ وعليه سأتبعُ طريقة تتناغم مع طبيعة الموضوع الذي تتناوله بأفضل مايمكن وبكيفية شبيهة باللغة القانونية التي تؤطّرُ القانون أو الصياغة الرياضياتية التي تصفُ حركة الذرّات ، ولأجل تحقيق هذا الهدف ( إستشكاف ماهية الأدب والسبب الكامن وراء أهميته في حياتنا ) سألجأ إلى إتباع تقنية أدبية معروفة لكلّ من سبق له قراءة قصة أو قصيدة : سأقترحُ إستعارة مجازية  Metaphor للأدب ، ثمّ سأستكشفُ ماالذي تعنيه هذه الإستعارة وماالمترتّباتُ التي تترتّب عليها ، وهذا الفعل هو نوعٌ من التحليل المُتّبع في النقد الأدبي . الإستعارات – على النحو الذي سأناقشه في الفصل الثاني من هذا الكتاب – هي أدوات الفكر ؛ لذا عندما يكتب الشاعر ، مثلاً ، ” حُبّي وردة ” سيقود هذا القول إلى التفكّر في جمال الحب ( المماثل لجمال الوردة ) ؛ لكنه سيذوي ويتلاشى أيضاً مع الزمن ( لأنّ الوردة ، حالها حال كلّ الأزاهير ، تموت في نهاية الأمر ) . سأشرعُ ، مستمدّاً الطاقة المُلهِمة من  قصيدة لوري أندرسون Laurie Anderson  المسمّاة ( إيماءة حركةٍ بين شخصيْن ) في إعتماد الإستعارة التالية بشأن الأدب : الأدب هو مُحادثةٌ حيّة Literature is a living conversation ، وبالإعتماد على هذه المقاربة الإستعارية يمكننا البدء في معرفة السبب الكامن وراء أهمية الأدب في حياتنا . 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *