محاولة تنظيريَّة

محاولة تنظيريَّة
آخر تحديث:

    د. جاسم خلف الياس

من المعلوم ان الشعريات الحديثة تجاوزت النوع الادبي، وخلخلت أبنيته ومفاهيمه المستقرة، إلّا أنّ فضولي في مناقشة ظاهرة التجنيس في المدوّنات القصصية هو الذي قادني الى اثارة مثل هذه الاشكالية. إنّ المكونات التي تتشكل عبر اليات مختلفة وأهداف مغايرة يصبح لها معنى مختلف وتحتاج الى تناول مختلف وربما كان هذا المأزق الذي يجد له تجليا في الانواع القصصية الحديثة مبررا عند كثير من النقاد للتخلي عن مفهوم النوع. لذا لن نعمد الى مناقشة الانواع القصصية بدءا بـ (النوفيلا) ومنطقتها الوسطى التي ظلت موضع نزاع دائم حتى في الاصلاح ذاته (قصة قصيرة طويلة)، (قصة طويلة)، (رواية قصيرة) وانتهاء بالقصة القصيرة جدا مرورا بحلقة القصص القصيرة والقصة/اللوحة وغيرها. وانما سنركز جهدنا في اثارة الحوار باتجاه ما يطرأ على الواقع القصصي من تسميات تحاول المغايرة والمغادرة، فهل استطاعت أن تحقق توصلا قرائيا بواسطة التجنيس ام الاشتغال والمكونات الاشتراطات الأخرى؟ (بعد هذه المحاولة التنظيرية هناك جانب تطبيقي أيضا). ونتساءل منذ البدء، هل استطاعت المدوّنات القصصية على تشعّب تسمياتها بوصفها موجها قرائيا أن تشكل نوعا في ذاته أو مجرد كتابة عابرة للأنواع؟ وهل يمكن التعامل مع النوع بوصفه مجموعة من التنويعات الفرعية الممتدة بلا نهاية؟ وهل يأبى الكاتب المميز إلّا أن يفرض طابعه الخاص على النوع؟ وهل يمكننا القول أن كلّ نصّ يمثل وحده نوعا لأنه يعكس لحظة ابداع ولحظة تطور مختلف؟ وهكذا نتصاعد في هذا الاتجاه حتى نقول إن النص الواحد ينقسم على نفسه ويتأبّى على أي تصنيف وبهذا نكون قد قسّمنا الموقف لصالح اللانوع واللانظرية. ثم نتساءل اذا كانت الانواع القصصية الحديثة تحاول التخلي عن المعايير التي تقيد في الحكم على توافق عمل ما على قاعدته، فهل تستطيع الافلات تماما من هذه المعايير؟ أم بقيت حدود دنيا تربط تلك الكتابات بالأنواع القصصية عبر مجموعة من العناصر والتقانات التي تظهر في النص واحد أو بعضها؟ وربما تأتي الإجابة سريعا، لا بدَّ أن يتمسك النص القصصي بأدنى السمات الجمالية التي تميز هذا النوع عن غيره. وعلى هذا الأساس نستطيع إخضاع إشكالية التجنيس لظاهرتين تعملان بوعي في المنتج السردي عموما وهما:

1 – ظاهرة التجريب بوصف الكتابة موضوعا للمتخيل السردي وحضورا يتمظهر ويشخص حالات الوعي المحتملة والمتغيرة حسب قدرة النصوص على الانفتاح والتفاعل.

2 – ظاهرة التذويت بوصف الذات محورا نصّيّا ينبني على نظام المحكي الذاتي، اذ نكون داخل زمن التخييل غير ملتزمين بسؤال التطابق لأنّ سؤال المرجعية الواقعية غير مبرر في مثل هذه الممارسات السردية.

     لذا نجد أنّ بعض النصوص تقترب/تبتعد عن القصة القصيرة حسب توفر المهيمنات النوعية أو تذويبها في التداخل النصوصي بوصفه رد فعل ((للتصورات البنيوية التي تعاملت مع النص داخل سيميائيات الاتصال بوصفها مجالا للتبادل)). فمسألة التسمية على هذا الأساس ليست تسمية كيفما اتفق وانما مسألة ((بنية وتقانات واركان مكوّنة)). ولا شكَّ أنّ ثمّة عناصر وتقانات يفيد منها قاص ما بشكل مغاير عن قاص آخر، ومن هنا يفرض التمايز وجوده بين القصاصين بكل تأكيد. يقينا أن التشابه في النوع لا يعني فقدان الهوية الابداعية المتفرّدة أو الخصوصية، ولكن توسيع المفاهيم كثيرا بحجة الحرية سيقود الى شيء من الانفلات؛ لأنّ محاولة التأسيس لنوع أدبي جديد ستتوقف على تشخيص المحددات التي تفرق بين جماليات الكتابة في نوع سائد ومألوف باشتراطاته القارة وبين نوع يبتكر تعيينات جديدة لصوغ قول جديد تبلغ نسبة التداخل بينهما درجة من الالتباس المحيّر الذي يؤدي الى الشك أحيانا، لنصل الى المغايرة النصية – القصصية لواقعية السرد التي تسعى الى المدوّنة.اننا كثيرا ما نقف أمام نصوص تصبح فيها شاعرية القصة متوازية على الاقل مع سرديتها ان لم تكن متفوقة عليها، أي يشتبك الشعري بالسردي، ويحدث هذا تحديدا في تداخل القصة القصيرة جدا مع قصيدة الوصف عبر التكثيف والاستعمال الايحائي للكلمات، اذ تجول اللغة بأقصى طاقاتها التعبيرية دون الابتعاد عن الطابع السردي، فالضغط الاجناسي المتولد من التشابك، يحاول استلاب هوية النص الى حد الذي يصعب التفريق بينهما، وقد تجلى هذا الضغط الاجناسي بشكل خاص في النصوص التي خلت من القصصية وعناصرها المهيمنة على اليات النص ، واعتمدت على مركزيتها الداخلية وزمنها النفسي وتتابع تفصيلات محددة، وأن ما يزيد العلاقة تشابكا هو استمرار اللعب اللغوي بوصفه عنصرا مهما في كتابة القصة القصيرة بفتنة اللغة المجازية التي تجمع بين شاعرية القص وقصصية الشعر الى الحد الذي اطلق عليها أقصودة. ان مثل هذه الكتابات لكي تنفي عن نفسها صفة الالتباس على الاقل والانطباع السائد عنها بانها (موضة) أو (تقليعة) أو (بدعة) أو ما شاكل ذلك، عليها أن تضع نفسها في موقعها الأدبي ضمن الوجود النوعي لها. وسواء أصابها قدح من المفكرين أم مدح من المنصفين، فإنها تبقى كغيرها من النصوص الأدبية في حاجة الى معايير تسوغ وجودها وتحقق فرادتها الأدبية. أي أن كلّ نصّ لا بدَّ أن يستقي أسسه الجمالية من بيئته الداخلية لنمنمة وجود شرعي لا يفرضه من الخارج بل بتفاعلها مع تجليات قصصية تغاير المواصفات المتحققة في أنواع قصصية أخرى، بتعاقد طبيعي بين المؤلف والقارئ فرضته التغيرات الشمولية وبتأثير متبادل بينه وبين الانواع الأدبية المجاورة له في سياقاته التاريخية والجمالية اذ تظل الأنواع التقليدية قائمة بوصفها تاريخا وانجازا ثابتا ومكتسبا لا يصح التخلي عنها، بوصفها موروثا نوعيا له خصائصه التي تشكل معيارا في الدراسات والبحوث النقدية.  

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *