أحببتك طيفاً … بقلم وليد الزبيدي

أحببتك طيفاً … بقلم وليد الزبيدي
آخر تحديث:

في الغربة، إما أن يصاب المرء بالخذلان، فيخبو وينطفئ، أو يبحث عن شمعة ليشعلها في كل يوم، تحت وقع حافز أمل حقيقي، وعندما تقترن الغربة بتهجير قسري للإنسان من بلده، فإن الحال يختلف تماما، إذ تصبح الغربة الممزوجة بالتهجير عامل قوة في التغلب على الخذلان، ومقارعة ساعات وأيام وسنوات الظلمة بشمعة هنا وومضة هناك، لينبلج صبح ونزيح ظلمة قاتمة ونقول كلمتنا.

هذه الكلمات وما بين سطورها، حضرت في ذهني وأنا أقرأ رواية (أحببتك طيفا) للكاتبة العراقية المُهجرة قسرا وظلما من بلدها ناصرة السعدون، وفي محاضرة لها في الغربة، لفتت السعدون إلى مسألة مهمة،عندما قالت أصررت على نشر هذه الرواية، ولها قصة معها لا بد من الإشارة إليها، فرواية (أحببتك طيفا) تربط بين حربين أميركيتين على العراق، موضوع الرواية، يتحدث عن حرب عام 1991، التي أصرت فيها الولايات المتحدة والحلف الدولي معها على تدمير بغداد والعراق بصورة عامة، وتنقل السعدون شذرات كثيرة عن تلك الحرب بكل تفاصيلها، القتل والدماء والرعب الذي تثيره هجمات طائرات وصواريخ أميركا بين الاطفال والكبار في السن، وصور الدمار المحفورة في الذاكرة، وبين كل تلك الشذرات ، تجد دفقا عراقيا زاخرا بالحب والحياة.

بسبب انشغالات ناصرة السعدون في الكتابة والترجمة، وضغوط الحياة التي ألقت بظلالها على العراقيين بسبب الحصار القاسي، الذي أكملت به الولايات المتحدة الصفحات الأخرى لحربها التدميرية عام 1991، وتواصل خلال حقبة التسعينات ومطلع الألفية الجديدة، تأجل مشروع كتابة رواية (أحببتك طيفا)، ومن غريب الصدف أن تنتهي طباعة الرواية إبان سقوط صواريخ الأميركان على بغداد في ربيع عام 2003، ويتم إبلاغ الكاتبه بأن روايتها قد رأت النور، فما كان عليها إلا قطع مسافة طويلة تحت وابل القصف المدمر العنيف لترى الوليد الجديد بحلته الزاهية، فالكاتب يرى في كتابه زهوا بحلته وحلاوة خاصة بملمسه.

حصلت ناصرة السعدون على مجموعة من نسخ الرواية التي أرخت لبعض أيام الحرب الأميركية عام 1991، وعندما أصرت على إعادة طباعة الرواية فإنها قد حفرت في الذاكرة مشاهد كثيرة لحرب أميركا الثانية على العراق عام 2003، وبين هاتين الحربين حياة زخرت بالألم وحياة مقبلة على المجهول، عادت بفرحة طفولية وهي تحمل نسخ الرواية خلال أيام حرب 2003م، على أمل أن توقع العديد من النسخ وتهديها للأهل والمعارف والأصدقاء، ومن جمهرة الكتاب والأدباء والمثقفين، لكن القصف تواصل بكل وحشية، ثم زحفت غيوم شديدة الظلمة والقتامة، ونشروا فوضاهم ببغداد ومدن العراق الأخرى.

عندما تسلم سلطة الثقافة تحت ظل الاحتلال الأميركي القادمون مع الغرباء والغارقون في حب الغرباء، قرروا إتلاف رواية (أحببتك طيفا) ورفضوا توزيعها، لأنها تتحدث عن وحشية وجرائم الأميركيين عام 1991، وترسم صورة بهية للعشق العراقي الشفيف، وتم إحراق الرواية، واحترق معها قلب ناصرة السعدون.

بعد عقد من الزمان، أصدرت ناصرة روايتها، لكن في الغربة، وتم إجراء عدة لقاءات صحفية معها، كما احتفت فيها البيوت الثقافية في الخارج لتوقيع الرواية، وفي كل مرة يحضر عدد كبير من المثقفين العراقيين في الغربة، ليتواصلوا مع المبدعين العراقيين، فخرجت الرواية من نسخ الرماد التي أرادوا لها البقاء في البعيد، لتصل من جديد إلى النور.

ليس أمامي، إلا القول، إن إصرار ناصرة السعدون هذا، يعبر عن إبداع مضاف لإبداعها، رغم كل الصعوبات والظروف القاسية التي يعيشها العراقيون المهجرون، فقد أصرت على نشر روايتها، التي وثقت للحرب الأميركية الأولى، وسجلت للكيفية التي يتعامل بها الغرباء عن الثقافة مع الإبداع العراقي، فقط لأنه يرفض الخنوع للغرباء والغزاة.

وليد الزبيدي : [email protected]

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *