أدب الديكتاتورية.. صنع أدباء عمالقة

أدب الديكتاتورية.. صنع أدباء عمالقة
آخر تحديث:

د. احمد مراد 

لا يشبه الديكتاتور إلا الروائي!

يقف أحدهما غالبًا في مكان مختلف، لكنهما يشتركان في عمل واحد هو إعادة اختراع العالم. الروائي يخلق على الورق بشرًا يشبهون البشر وواقعًا يشبه الواقع ولا يتطابق معه، والديكتاتور يخترع شعبه السعيد المصطف لتحيته على جانبي الطريق وبرلمانه المصفق كلما تفوه بحماقة من حماقاته! وليست مصادفة أن يحاول اثنان من عتاة المستبدين العرب (صدام والقذافي( كتابة الرواية، وليس مصادفة أن يحتفظ كاتب مثل غابرييل غارسيا ماركيز بصداقة قوية مع فيدل كاسترو، ولكنه يكتب رواية يذم فيها ديكتاتورًا آخر.ماركيز واحد من روائيي أميركا السمراء الذين استطاعوا حبس الديكتاتور في سلسلة مباركة من الروايات اهمها: الجنرال في متاهة الرواية، السيد الرئيس: الظالم حاضراً غائباً

هنا لا بد لنا بداية أن نفتح هلالين لنقول إنه لا يمكننا القول، إن أدب أميركا اللاتينية هو المؤسس الأول لما بات يُعرف منذ زمن بعيد ب «أدب الديكتاتورية «. ومع هذا يمكن القول، في المقابل إن روايات من ماركيز ويوسا وكاربانتييه وغيرهم، قدمت للعالم طوال القرن العشرين، بعض أقوى الأعمال في هذا المجال. وفي الوقت نفسه لا بد من أن نتساءل لماذا عجز الأدب العربي طوال القرن العشرين وحتى الآن، عن تقديم أية إنجازات حقيقية لافتة في هذا المجال، مع أن حياتنا العربية السياسية امتلأت، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وربما على طول تاريخنا منذ قرون عدة،

حكاماً ديكتاتوريين، معظمهم لم يقلّ قسوة وعنفاً وجنوناً عن أولئك الذين عرفتهم بلدان أميركا اللاتينية، فوجدوا في الأدب مرآة صوّرت أحوالهم وأحوال شعوبهم تحت وطأة حكمهم، ومن جوانب

كافة، ربما يكون من أبرزها الجانب الإنساني كما، مثلاً، في (خريف البطريرك) و (الجنرال في متاهته) لماركيز، أو (عرس التيس) ؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال بالتأكيد. ولكن ربما يكون علينا أن نبحث عما هو قريب منها في مواقف عربية وإسلامية موروثة، تعبّر عنها أفكار مثل «كما تكونوا يولى عليكم» أو «لا بد من نصرة الحاكم، عادلا كان أم جائراً». وهذا من دون أن ننسى أن ديكتاتوريي النصف الثاني من القرن العشرين في البلدان العربية والاسلامية كانوا عرفوا غالباً كيف يستميلون الكتّاب والمبدعين للتصدي معاً «لمجتمعات متخلفة».

كان من بين الحضور في ذلك اليوم الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس الذي كان أشهر المجموعة والكوبي اليخو كاربانتييه والأرجنتيني خوليو كورتاثار وعدد من الكتاب الآخرين الأقل شهرة. وكان فوينتس قد قرأ لتوّه كتاباً للناقد والكاتب الشهير أدموند ويلسون يرسم فيه صوراً قلمية لشخصيات الحرب الأهلية في أميركا الشمالية. وخلال الحديث بين الأصدقاء يومها، تساءل فوينتس: لم لا نضع كتاباً جماعياً يضم صوراً قلمية لديكتاتوريين من أميركا اللاتينية؟

تحمّس الحضور للفكرة حماساً كبيراً خاصة أن العنوان المقترح كان مغرياً: «آباء الوطن». وتعهد بارغاس يوسا بالكتابة عن مانويل أورديا فيما اختار خورخي أدواردز خوسيه مانويل فالماثيدا وخوسيه دونوسو ماريانو ميللاروخو وقرر كورتاثار أن يكتب عن إيفا بيرون.. غير أن المشروع سرعان ما طوي ليكتب العديد من الكتاب الكبار روايات متعددة ومتنوعة عن دكتاتوريين حقيقيين ووهميين ولكن ليس استيحاء من الجلسة اللندنية بل على خطى رائد معاصر في هذا المجال هو ميغويل آنخل آستورياس الذي كان سبقهم في القرن العشرين مبكراً بكتابة روايته الرائعة (السيد الرئيس).. التي حتى وإن كانت رائدة فإنها كما سنرى لم تكن الأولى حقاً.. وإن كانت النموذج الذي سار على هديه نحو نصف دزينة من كبار كتّاب الفورة «اللاتينية» منشئين أعمالاً حملت بين أسماء أخرى عناوين (أنا الأعلى) و (عرس التيس) و (اللجوء إلى المنهج) و (خريف البطريارك) و (الجنرال في متاهنه) وهي الأعمال التي نتوقف عندها في السطور التالية.

 

السيد الرئيس ام الروايات

رواية أستورياس (السيد الرئيس) التي تعتبر عادة، واسطة العقد في المسار التاريخي لهذا النوع من الأدب، ولعلها، إلى هذا، تعتبر الأقل مباشرة بين الروايات المشابهة لها، حتى وإن كان عنوانها يوحي بعكس هذا تماماً. وذلك لأنه إذا كان ديكتاتوريو (عرس التيس) و (أنا الأعلى ) لروا باستوس،و (خريف البطريرك ) و (الجنرال في متاهته) لماركيز، يظهرون في هذه الروايات في شكل واضح، بل يكاد الواحد منهم لا يغادر صفحات الرواية الخاصة به كما سوف نرى، فإن ديكتاتور استورياس، بالكاد يظهر. أنه الغائب، الذي – مع هذا – يسجل حضوره الأكبر في.. غيابه. أما عموميته وكلية حضوره في هذا السياق فيؤمنهما كون البلد الذي تدور فيه الرواية مجهولاً غير مسمّى فيها. وكذلك فإن الديكتاتور لا اسم له.. وهل تراه في مطلق الأحوال يحتاج اسماً غير (السيد الرئيس )؟ بل هل تراه يحتاج لأن يحضر بنفسه، في وقت نجده حاضراً، مثل ذلك الشبح الذي كان يخيم على أوروبا من دون أن يراه أحد في مستهل «البيان الشيوعي « لكارل ماركس» وفردريك انغلز؟ الديكتاتور في (السيد الرئيس ) موجود في حياة الناس والبلد، في أفكارهم وعلى ألسنتهم، فيحاضرهم وماضيهم ومستقبلهم. إنه أشبه بالعنكبوت الذي يكثف من نسيج الشبكة التي تقام حوله، إلى درجة أنه لا يعود يظهر في مركزها. لكنها هي، وكل ما حوله وحولها ينبئان بوجوده ويجعلانه كل شيء وأي شيء.

في هذه الرواية التي كتبها استورياس عام 1946 ، لا تدور الأحداث حول السيد الرئيس، إنما حول جريمة قتل اقترفها متسوّل ذات لحظة وكان ضحيتها الجنرال باراليس سورينتيس، الذي كان يعتبر واحداً من أكبر أعمدة النظام ومساعدي السيد الرئيس. وهكذا، إذ تحدث الجريمة ويتم القبض على الرجل البائس الذي اقترفها، تبدأ محاكمة هذا الأخير. وبالطبع لن تكون محاكمة عادية. ولن تكون محاكمة واضحة المعالم واضحة المقدمات والنهايات، بل إنها محاكمة ستبدو أشبه بظل لها، تلك المحاكمة التي تعتبر الأشهر في عالم الأدب: محاكمة السيد ك. في رواية كافكا (المحاكمة ). فالسياق  يدخلنا هنا ليس في دهاليز عقل القاتل فقط، وليس في دهاليز النظام والمدينة والدولة اللتين يحكمهما هذا النظام، بل في شكل أكثر تحديداً وقوة، في دهاليز عالم الديكتاتورية نفسها. في عقلية الحكم الديكتاتوري. وفي شكل أيضاً أكثر تحديداً، في دهاليز عقول الناس، ممثلين هنا بأولئك الشهود، الذين ينكشفون أمامنا بالتدريج، أناساً لم يروا أي شيء مما حدث لكنهم في الوقت نفسه، رأوا كل شيء. وهم قادرون الآن على قول أي شيء عن أي شيء، في طواعية غير مفكّرة، لعل أول ما تحيلنا إليه هو كتاب الفرنسي بوبسيه (العبودية الطوعية ). ففي الظاهر لا يرغم أحد أحداً على تقديم أية شهادة.

ولا على قول أي شيء، ولكن هل يمكن لأحد، حقاً، أن يقاوم فكرة أن النظام – وبالتالي صاحب النظام – في «حاجة إليه « وبالتالي عليه الإسراع في تلبية تلك الحاجة، أي في التطوع لتأكيد أن القاتل الحقيقي للجنرال الثقيل، إنما هما جنرال آخر يدعى كاناليس وشخص يدعى كارفاجيل. والدليل أن هذين يعتبران من أعتى أعداء السيد الرئيس؟

هنا، إذاً، يكمن محور اللعبة الحقيقي: أن توجه الاتهام إلى من أنت – أصلاً – في حاجة إلى التخلص منه. إنها اللعبة الكلاسيكية بامتياز. وحول هذا المحور تتوالى الأحداث والشخصيات، من فتاة أرادت أن تنبّه كاناليس إلى ما يدبّر له فتصل بعد أن يكون هذا الأخير تمكن من الفرار.. إلى السيد الرئيس نفسه الذي سرعان ما سنكتشف أنه هو الذي دبّر، أصلاً، فرار عدوه كاناليس، لأسباب لن تتضح لنا، فيما يُقبض على الفتاة وتعذّب وتُمنع حتى من إرضاع طفلها فيموت الطفل وتباع الفتاة إلى بيت الرذيلة لتصبح، وقد انهارت تماماً، فتاة هوى، قبل أن تفقد عقلها..

ومن دون أن نتابع هنا سرد الأحداث المتلاحقة، ولا حتى تفسيرها، نقول فقط إن هذا كله يدخلنا وسط عالم عبثي، بالكاد نفقه سيرورته في شكل واضح إلا على ضوء قراءة الرواية حتى النهاية. وهذه القراءة تجعلنا أمام اختلاط بين العام والخاص ) إذ ذات لحظة مثلاً، سنكتشف، أن سبب العداء المستحكم بين الديكتاتور – السيد الرئيس – والجنرال كاناليس، سبب شخصي جداً، حتى من دون أن

نعرف كنه هذا السبب(. وهنا نجد ابنة كاناليس التي يتزوجها الشاب الجميل الوسيم آنج – الذي ليس في حقيقته سوى الشيطان عينه، هو الذي يعتبر المساعد الأول للس يد الرئيس. بداية يخيل إلينا أن آنج يتزوج ابنة كاناليس لينقذها من الموت، لكننا سرعان ما نجده وقد تركها تتدهور، لتصبح أول الأمر عشيقة السيد الرئيس، ثم امرأة منتهية. لماذا؟ لعله الحقد والكراهية العميقة بين السيد الرئيس والجنرال الهارب. بيد أن هذا كله، لا يعدو – في نهاية الأمر – نطاق الاحتمالات. ذلك أن هذا السياق في الرواية يبقى أميناً لكافكاويتها حتى النهاية.

كل هذه الأحداث هي – في نهاية المطاف – هنا لا لترينا ما يتسبب به حكم السيد الرئيس من تدهور جسدي لدى المحيطين به، والخاضعين لبطشه، كما لدى أعدائه وحسب، بل كذلك التدهور الأخلاقي لدى الناس. ففي ظل حكم الطاغية يصبح الفرد مجرد شيء. أما الذي يحاول أن يقاوم – كما قد يفعل آنج ذات لحظة وقد وعى ما يحدث له ومن حوله، فإن الموت العنيف أو الانتحار، أو الاختفاء هكذا من دون أثر، يكون نصيبه. أما هذا كله فإن استورياس يصل به، في الفصل الأخير وعنوانه يحمل أكثر من دلالة: «المدفون حياً «، إلى ذروة تضع القارئ، ليس أمام درس في السياسة، أو درس في الأخلاق، أو درس في التاريخ، بل أمام درس في كتابة الرواية، حيث بعدما يكون الكاتب قد مشى بنا فصلاً بعد فصل وصفحة بعد صفحة في عوالم تتصاعد بالتدريج، وتكشف أوراقها بالتدريج، يصل بنا إلى خاتمة مدهشة، نتساءل بعد اكتشافها: كيف ترانا لم نخمّن هذه النهاية منذ الصفحات الأولى للرواية؟

إذاً، عبثية وكافكاوية رواية استورياس (السيد الرئيس) هذه، لكنها مع هذا ليست رواية من نسج خيال الكاتب وحده. بل هي مستقاة – وإن في شكل غرائبي خلاق – من الحكاية الحقيقية لرئاسة الديكتاتور الغواتيمالي مانويل استرادا كابريرا، الذي حكم هذا البلد بين 1898 و 1920 .

أما استورياس (1899 – 1974 )، فإنه بدأ كتابة روايته هذه في آخر سنوات العشرين، لكنه لم ينجزها إلا في عام 1933 ، ولم ينشرها للمرة الأولى إلا بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً، لتحقق من فورها نجاحاً ساحقاً، واضعة صاحبها وهو في السابعة والأربعين من عمره في مصاف كبار أدباء القارة الجنوبية، هو الذي عرف كشاعر وروائي وكاتب مسرحي وصحافي، ولكن أيضاً كدبلوماسي خدم حكومات بلده، في فترات كانت هذه الحكومات ليبرالية أو يسارية.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *