(أصوات من هناك) ..رواية الأصوات التي تجاهلها الأقربون قبل الأبعدين

(أصوات من هناك) ..رواية الأصوات التي تجاهلها الأقربون قبل الأبعدين
آخر تحديث:

البصرة/شبكة أخبار العراق- لا يبتعد القاص والروائي نعيم آل مسافر في روايته الجديدة (أصوات من هناك) كثيراً عن بيئته ومناطقه التي يعيش فيها، فبعد أن قدّم في روايته الأولى (كوثاريا) مكاناً حلمياً يتمثّل بمنطقة آثارية، يصعد هذه المرة من خلال بطله إلى تلٍّ لا يفارقه الجان، ومن ثمَّ يشرع في كتابة ما يمليه عليه تلبّسهم له. الرواية التي صدرت عن دار شهريار في مدينة البصرة، تسحبك إلى عوالم مسكوت عنها، وقد اعتمد من خلالها آل مسافر على تقنيات سردية كثيرة، ربما من أبرزها تعدد الرواية وتعدد الأصوات في الوقت ذاته. بين القصة والرواية

لكن، ربما نتساءل، إذا كان نعيم آل مسافر قاصاً وعرف من خلال هذا الفن السردي الصعب، ما الذي دفعه للاتجاه للرواية، وفي حديثه معنا، يعتقد أن من تذوّق حلاوة القصة لا يمكنه أن يتركها نهائياً. نعم، ربما يجرب الكتابة في أجناس أدبية أخرى, وقد تستحوذ تلك الأجناس على اهتمامه, لكنه يعود إليها بين الفينة والأخرى؛ فهنالك ثيمات لا تصلح كتابتها إلا بالقصة، حسب قوله، و”لذلك لم أترك كتابتها، ولدي مجموعة من القصص التي سأحاول إصدارها في مجموعة قصصية. وكذلك عندي تجربة جديدة في أدب الطفل, اعتمدتها مجلة قنبر للأطفال, وبدأت نشرها بشكل حلقات كقصص مصورة (كومكس)”.
ويعتقد أن المبررات كثيرة لتحول القاص إلى الرواية, منها أن هنالك مواضيع وأفكاراً لا يمكن تناولها إلا من خلال الرواية. ونحن بحاجة إلى الرواية التي تصدمنا وتدهشنا وتثير تساؤلاتنا, لتجلعنا قادرين على مراجعة كل شيء, وبشكل حقيقي. وليس هنالك من جنس كتابي غير الرواية, يمكنه أن يجعلنا قادرين على تلك المراجعة.
 
ربما يحيل عنوان رواية آل مسافر (أصوات من هناك) إلى الكثير من الدلالة، وعن سبب اختياره لهذا العنوان، يقول الكاتب إن العنوان عتبة أولى للنص, وكان لابد لهذه العتبة أن تُعطي مفاتيح قرائية للمتلقي, وتثير لديه تساؤلات تجذبه للقراءة, وتساعده على التأويل, ليكون بالتالي شريكاً في كتابة النص. فالأصوات المقبلة من الهناك، هي الأصوات التي بُحّتْ من النداء ولم يستمع إليها أحد. “قصدت بالهناك معاني مختلفة: الجنوب، الهامش، الذاكرة، الماضي، القرية، العالم الآخر.لأنها الأصوات التي سخر منها وتجاهلها الأقربون قبل الأبعدين, وظلمتها السياسة والثقافة, والطائفية والمناطقية والعرقية, بل وحتى الفن والأدب. حاولت بهذه الرواية أن أنقل صورة مختلفة عن الصورة النمطية التي تقدمها المرويات العراقية عن شخصية القروي, إذ تقدمه على أنه ساذج سطحي تافه, علماً أن القرية مصنع المقاتلين الأشداء المدافعين عن الوطن, خزان الأغذية النباتية والحيوانية, منجم لانتاج المبدعين كالسياب وإسماعيل فهد إسماعيل, وطه حسين ويوسف إدريس وغيرهم. لا أدري لماذا لا تؤخذ جكيور التي أنجبت السياب أنموذجا للقرية العراقية مثلاً؟! فلو بحثنا في حياة الأدباء والمفكرين والفنانين العراقيين, لوجدنا أن أصول الكثير منهم قروية. كما أن هذه الأصوات هي الأصوات التي همست لي وحدثتني في لحظات كشف معينة؛ فاستمعت لها بصبر وأناة, وعشت مع أطيافها عدة سنين, ودونتها بأمانة وهدوء قدر الإمكان”…
 
اشتغل آل مسافر هذه المرة بعيداً عن البحث عن المدينة المتخيلة، ودخل لعوالم الجان والسحر، وهو في هذا يرى أنه ليس هنالك متخيل غير مستمد من الواقع، كما أن الكاتب ابن بيئته, إذا أراد أن يكون صادقاً مع نفسه وأدبه. وبيئة القرية لا يمكن الدخول لها ومعرفة كنهها إلا من خلال ذلك؛ فهي مكتنزة بتلك العوالم السحرية من الجان والأرواح والأساطير والحكايات والخرافات, التي يتوالد بعضها من البعض الآخر. لليل القرية سحره الخاص حيث السماء أكثر قرباً والنجوم أبهى سطوعاً, ولنهارها وهوائها وحقولها ودواوينها جمال آخر. كل شيء فيها سردي وبكر ونقي وعاشق… و”قد ولدتُ في قرية جنوبية نائية خارج التأريخ والجغرافيا, تقع في بقعة محاطة بالتلال الأثرية, تدور حولها الحكايات والنوادر, والتي لم يُنقب فيها حتى الآن ويمتد عمرها في عمق التأريخ آلاف السنين. عشت فيها سبعة عشر عاماً, ولم أنقطع عنها نهائياً حتى الآن. ورغم كل ذلك فقد اكتشفت الكثير عن القرية الجنوبية من خلال كتابة هذه الرواية”.

القارئ العراقي ربما يجد أن هذه الرواية عراقية تماماً، ذلك لأسباب عدّة، يجملها آل مسافر في حديثه متصوراً أنها جاءت عراقية للكثير من الأسباب، فموضوع الرواية يناقش التغيرات التي تعرض لها المجتمع, وذلك من خلال رصد التحولات في قرية جنوبية صغيرة, عاشت أربعة عقود من الحروب والتغيرات السياسية القسرية العنيفة؛ فلم تعد قرية كما كانت القرية التقليدية ولم تصل لتصبح مدينة. أما تقنياتها كتوالد الحكايات من بعضها البعض, فهي مستمدة من سفر السرد القديم (ألف ليلة وليلة). وهي عراقية أيضاً بلغتها التي وردت فيها الكثير من مفردات اللغات القديمة: السومرية الاكدية والبابلية والآرامية التي ما زالت تستخدم حتى اليوم في لغة القرية الجنوبية! في محليتها من حيث الزمان والمكان والأحداث والشخصيات, وربما سينظر لها البعض إنها غارقة في محليتها. إذ حاولت مخالفة المقولة السائدة من أن الرواية بنت المدينة, لماذا لا يكون هناك استثناء, وتكون لدينا رواية هي بنت القرية؟! وذلك لانتشار التعليم والانترنت والمواصلات وكثرة المتعلمين والمبدعين والفنانين من أبناء القرى. لماذا هذه النظرة الدونية لها؟! والتي جعلت أبنائها يضطرون إلى أن ينكروا انتسابهم لها، رغم أنهم خرجوا منها, وهذا الأمر يكاد يهيمن على نفوس الكثير من المثقفين العراقيين بشكل غريب.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *