شهادتان مضللتان صدرتا عن اثنين، الأول هنري كيسنجر، وزير خارجية أمريكا الأسبق الذي تخصص في إطلاق تنبؤات وتوقعات (مفرقعة) خارجة عن إطار المعقولية وصادرة من مخيلة تدميرية متخمة بالكراهية والحقد لم تعد تنفع في زمن حروب القوة الناعمة وفنونها وقوانينها.
فقد أكد، في حوار أجرته معه جريدة (ديلي سكيب) الأمريكية، “أن الحرب العالمية الثالثة باتت على الأبواب”، وأن” أمريكا وإسرائيل جهزتا نعشاً لروسيا وإيران، وستكون إيران هي المسمار الأخير في هذا النعش”.
والثاني وزير عراقي متهم بأنه اختلس من وزارته أموالا وهرب إلى أمريكا دأب، من أول فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، على إطلاق تصريحات ومقالات يوحي بها بأن له علاقاتٍ مباشرة وثيقة جدا مع الدائرة الضيقة المحيطة بترمب، وبأنه مطلع اطلاعا دقيقا ومفصلا على أسرار الخطط المقررة لقلب الأوضاع العراقية، وإعادة تأهيل المنطقة لتكون واحة عدل وأمن وسلام.
ويحرص فيها على شرح تفصايل العمليات الأمريكية الهادفة لإحداث التغيير في العراق، بالقوة، بدءا بحل الحشد الشعبي وجميع المليشيات التي شكلتها إيران، وطرد قاسم سليماني والحرس الثوري من العراق، وتشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة، ومحاكمة المتهمين بالفساد والاختلاس.
ويبدو أنهما، كليهما، ما زالا يعيشان في خيالات العصور الماضية، ويتوهمان بأن أمريكا هي المارد القادر على أن يفعل ما يريد، متى يريد، وأينما يريد، وينسيان أن الذي يحكم أمريكا ليس ترمب ولا الكونغرس ولا الوزير ولا السفير، على أهميتهم، بل يحكمها الدولار وحده لا شريك له.
فبالإضافة إلى اللوبيات والمافيات المالية والإعلامية والسياسية فإن للشركات الضخمة التي تنتج سنويا ضريبة دخل تقدر بمئات المليارات من الدولارات تمول بها الحكومة الفيدرالية أنشطتها داخل أمريكا وحول العالم أهدافا ومصالح ومخططات قد لا تتفق مع (تنجيمات) كيسنجر والوزير العراقي.
كما أن الواقع السياسي والعسكري والاقتصادي المتشابك في العالم، بوجود قوى عالمية فاعلة لا تقل جبروتا عن أمريكا، كالهند والصين وروسيا والاتحاد الأوربي وغيرها، قد وضع قيودا، ورسم حدودا لاستخدام القوة العسكرية يصعب تجاهلها والقفز عليها.
وفي الشرق الأوسط، وفي العراق بشكل خاص، لأمريكا ولمنافسيها الكبار، مصالح عميقة متشابكة لا يمكن المقامرة بها تبَعا لمزاج رئيس أو وزير أو سفير.
كما أن غرور القوة الذي دفع إدارة جورج بوش الإبن إلى غزو العراق خلق واقعا جديدا معقدا في المنطقة أصبح معه صعبا، بل مستحيلا، على أية إدارة أمريكية تالية تغييرُه إلا بغزو عسكري آخر، ولكن للعراق وسوريا معا هذه المرة، وخوض حرب عصابات، وقتال من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت، مباشرةً وليس بالوكالة. وهو أمر لن تتورط أمريكا فيه من جديد.
فإذا كان الجيش الأمريكي المحتل، من أول أيام دخوله العراق عام 2003 وإلى يوم رحيله عنه، قد خاض مواجهاتٍ دامية ومنهكة مع (فتافيت) مقاومةٍ عراقية سنية ضعيفة فقيرة متفرقة آلمته كثيرا، وكلفته الكثير من الدم والمال والسلاح، فهو، إذا ما عاد، مثلما يبشرنا به الوزير العراقي وكسينجر، سيجد في انتظاره إيران الدولة، بقوتها العسكرية الذاتية، وإيران المتخفية وراء مليشياتها ووكلائها المتناثرين في كل مفاصل الحياة العراقية والسورية، بالإضافة إلى (تجمعات) عربية سنية وكوردية واقعة تحت سلطانها، مع ما يُتوقع من ردود أفعالٍ روسية وتركية غير متوقعة، ومواقف دول وأحزاب وقوى راديكالية وطائفية وقومية أخرى عديدة في المنطقة لم تكشف عن عدائها لأمريكا بعد.
والذي يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية يعلم، أكثر من الذي لا يعيش فيها، بأن المزاج العام للشعب الأمريكي لم يعد حربيا كما كان. فهو في كل يوم يزداد قناعة بأن من غير الضروري أن تخوض حكومته حروبا جديدة في أية منطقة من العالم، لأي سبب إلا لما يتأكد أنه تهديدٌ جدي وحقيقي.
وتظهر هذه القناعة واضحة وقوية في أجهزة إعلام محلية، صحافة وإذاعة وتلفزيون، في المدن البعيدة عن واشنطن ونيويورك، تتحدث بلغة واقعية مختلفة اختلافا كبيرا جدا عن لغة الصحف (الفيدرالية) الكبرى المرتبطة بمراكز القوى السياسية والاقتصادية الحاكمة.
ومأزق إدارة ترمب مع كوريا الشمالية وإيران دليل لا يقبل النقض. فقوة كوريا الشمالية النووية والصاروخية مصدرُها الوحيد المعروف والمكشوف هو روسيا والصين. ولكن ترمب، لم يُظهر قط أية عزيمة على الاصطدام بهما، بل إنه منهمك في ترضيتهما وتحفيزهما، بالتي هي أحسن، على التوقف عن تقوية (عدوتيه) عليه، ويكتفي بتهديد كوريا الشمالية وإيران بـ (العواقب الوخيمة) وليس أكثر من ذلك.
وقد أعلنت وزارة الدفاع الإيرانية، في خطوة استفزازية جديدة، عن خط إنتاج جديد لتصنيع الصواريخ الهجومية.
وتحدث وزير الدفاع الإيراني، حسين دهقان، أثناء حفل تدشين الخط الجديد، عن قدرات صاروخ (صياد ثلاثة) الذي يمكنه استهداف مقاتلات وطائرات بدون طيار وصواريخ كروز وطائرات هليكوبتر. ويأتي هذا الإعلان بعد أسبوع فقط على فرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية جديدة على إيران بسبب برنامجها للصواريخ الباليستية.
وها هو ترمب في العراق وسوريا يتحاشى الصدام الحقيقي مع إيران ومليشياتها، ومع روسيا وقواتها، ويستخدم الحرب على داعش ستارا للتسلل العسكري والتمدد في سوريا، وفي العراق، على مضض.
وهذه المقالة ليست دعوة إلى اليأس، وإلى ترك إيران تصول وتجول وتعبث بأمن الشعب العراقي وشعوب المنطقة، وتهدد مصالح العالم وأمنه، بل هي دعوة إلى التخلي عن أوهام الغزو، والتوقف عن الدعوة إلى قتل أكبرِ عددٍ من الناس، واستبدالها بسياسة إشغال النظام الإيراني بنفسه وبهمومه، في الداخل، بدعم المعارضة الإيرانية التقدمية الديمقراطية، وبتثوير القوميات والأقليات المقموعة من قبل الحرس الثوري، ومدها بما يلزم من الدعم والمساندة والتمويل والتسليح. وهذا هو أمضى أسلحة الهجوم، وأفضل وسائل الدفاع. ثم هل هناك تهذيب وترشيد لروسيا أكثر من حرمانها من زبائنها في إيرلن وسوريا؟
وربما يكون هذا هو ما عناه مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA، مايك بومبيو، حين كشف النقاب عن أن واشنطن في وارد تطوير سياسة التعامل مع النظام الحاكم في طهران، ولكن بعيدا عن الغزو والاحتلال. وقال: “لقد بدأنا أولى الخطوات، وهي أن الرئيس ترامب بدأ بتأسيس ائتلاف من دول المنطقة لإيجاد أرضية مشتركة في مواجهة التوسع الإيراني”.
وأغلب الظن أن الإدارة الأمريكية أصبحت أقرب ما تكون إلى رؤية السناتور جون ماكين رئيس لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي التي تقول إن “الوقت قد حان لتغيير النظام في إيران من أجل تحقيق تطلعات الشعب الإيراني وقيام ديمقراطية فعالة لبناء مجتمع حر ومنفتح في إيران”.
وتأتي هذه التصريحات بعد أيام من كلمة وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، أمام الكونغرس، والتي أعلن فيها أن “سياسة أمريكا تجاه إيران تركز على دعم القوى الداخلية من أجل إيجاد تغيير سلمي للسلطة في هذا البلد”.فألا يكفي هذا كله لاعتبار ما اعتاد هنري كيسنجر والوزير العراقي على الترويج له أضغاثَ أحلام وحديثَ عجائز عن السلاطين؟؟.