نعم، لقد تمكن قادة أحزاب السلطة ومليشياتها من إطفاء وهج الإنتفاضة الشعبية الغاضبة، وتنويمها، بالقتل والغدر والتعذيب والخطف والاغتيال والرشوة والخداع.ولكنهم أيقظوا ملايين المنتفضين القادمين على الطريق، غدا أو بعد غد. فقد أثبتوا للشعب العراقي كله، بقسوتهم وعنفهم وتلفيقهم وتزويرهم، وتحديدا للطائفة الشيعية في العراق والعالم، أمرين مهمين،
الأول أن جميع رؤساء أحزاب السلطة ومليشياتها المتدينين المتعصبين للطائفة منافقون ومزورون، فولاؤهم، أولا وأخيرا لإيران وليس للطائفة وحقوقها وكرامتها وحرمة دماء أبنائها، حتى النَفس الأخير. إنها حرب حياةٍ وموت يخوضونها حتى النهاية، وهي حرب حياةٍ وموت، أيضا، يخوضها المضطهدون المنهوبون والمغدورون.
والثاني أن النظام الإيراني هو المهيمن والمسيطر والمدبر والمقرر الحقيقي الوحيد الذي بيده جميع الخيوط يحرك بها وكلاءه العراقيين كيف شاء، ومتى شاء، وأن مصالحه السياسية والعسكرية والاقتصادية فوق الطائفة وفوق أهلها أجمعين، وأن معاركه الحالية مع أمريكا وحلفائها تجعله مستميتا في الدفاع عن احتلاله للعراق بأية وسيلة، ولن يسمح لأية قوة بإسقاط حكم وكلائه العراقيين مهما كان الثمن حتى لو كانت تلك القوة هي طائفتَه ذاتَها التي يزعم بأنه جاء لحمايتها وإنصافها، وإن اضطر لأن يفعل بشيعتها قبل غيرهم ما فعله بشار الأسد بمعارضيه فسيفعل.
ومن اللازم هنا أن نتذكر كيف هبّ رؤساءُ أحزاب السلطة العراقية، كلهم، مجنِدين كلَّ ما لديهم من صحف وإذاعات وفضائيات وحسينيات لينددوا بمحاكمة المواطن السعودي نمر النمر، ويطالبوا الحكومة والشعب العراقي والمسلمين في العالم كافة بإدانة إعدامه، رغم أنهم يعلمون بأنه لم يتظاهر كما تظاهر العراقيون مطالبا بكهرباء وماء وإنترنيت، بل خرج، علنا، وعلى شاشات التلفزيونات العربية والعالمية مبارزا ومبشرا ونذيرا وداعيا شيعةَ السعودية إلى الثورة المسلحة على الحكم، وإقامة نظام جديد يوالي إمامة الولي الفقيه، ويجاهد معه لإقامة القسط والعدل والسلام.
كما لم ينسَ أحدٌ بعدُ كيف كانوا يشتعلون غضبا على حكومة البحرين كلما واجهتمتظاهرين يرمون على جنودها وشرطتها ومؤسساتها قنابل المولوتوف، ويطالبون الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان العالمية بالتحرك لحقن دماء (المجاهدين) في البحرين،وإدانة إجراءات الحكومة البحرينية الأمنية التي تشكل عدوانا سافرا على حقوق الإنسان.
ثم جاء الزمن الذي كشف لنا أن تلك الأحزاب المتدينة العراقية ذاتَها التي رفضت واستنكرت محاكمة نمر النمر وإعدامه، ولطمت وناحت على حقوق الإنيان في البحرين،لم تسمح لمواطنين من طائفتها نفِدَ صبرُهم فخرجوا متظاهرين مسالمين لم يهتف واحدٌمنهم بقتل نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وحيدر العبادي ومدحت المحمود، ولا بقلب نظام الحكم الحالي وإقامة نظام جديد عادل ونزيه يُنصف المظلوم ويعمّر المهدوم.
بل هبوا جميعا، بما لديهم من قوة ومن رباط الخيل، وبالرصاص الحي والمصفحات وقضبان الخشب والحديد يقتلون ويسحلون ويغتالون ويعذبون باسم الوطن وأمنه وسلامة مواطنيه.والمصيبة أن جميع المتظاهرين، لسوء حظ إيران ووكلائها، ولحسن حظ هذا الوطن المحتل، كانوا من أبناء المحافظات الشيعية، فقط لا غير. وقد ثبت أن أحدا من مواطنين مظلومين، مثلهم، لم يتسلل إلى صفوفهم من أهل محافظات غرب الوطن وشماله.
بمعنى آخر. إن الطائفة المنتفضة هي التي مَنحت قادة هذه الأحزاب السلطة والمال والسلاح، ونصَّبتهم حكاما بأصواتها للدفاع عن حريتها وكرامتها وحقوقها فخانوا الأمانة.
وما فعله الجيش ومليشيات هادي العامري وقيس الخزعلي والفضيلة وعمار الحكيم من قتلٍ وسحلٍ واعتقال وتعذيب ودهس بالمصفحات سيظل متوهجا في ذاكرة العراقيين،وعلى زمن مقبل طويل، يذكرهم بأن العراق وطن محتل، بكل ما تعنيه كلمة محتل، وأنالذين يحكمونه عبيدٌ وخدمٌ لسيدٍ قادم من وراء الحدود، لا خيار لهم سوى أن يفعلوا ما يَحمي رقابهم من سيفه المميت، حتى لو قتلوا آباءهم وإخوانهم، وحتى لو جعلوا وطنهم خرابة ينعق فيها البوم.
والمحزن أن هذا كله حدث وما زال يحدث والمرجعية تُفتي بحرمة المتاجرة بالآثار، وتسكت عن جرائم أولادها الأثرياء الحكام، ولا تحقن دماء أولادها الفقراء المحكومين وهي تراهم يتساقطون في ساحات الانتفاضة كالعصافير.
وأغلب الظن الذي يشبه اليقين أن شعبنا العراقي الصبور سوف يفعل ما فعلته شعوبٍ أخرى قبلنا كانت أحوالُها أقلَّ سوءً من أحوالنا، لكنها لم تصبر طويلا على الظلم والظالمين، وتظاهرت، سلما، في البداية، وحين لم تُنصف، ولم تُحترم مطالبها، أطلقت ثورتَها عاصفةً شاملةً لم تهدأ حتى اقتلعت الفساد من جذوره، ورمت بحكامهاالفاسدين في صناديق القمامة، برغم كل ما كان لديهم من عساكر ومدافع وقلاع.
نعم، لقد تمكن أصحابُ السلطة الغادرون من إنامة انتفاضة تموز، ولكن غدرهم أيقظالملايين من العراقيين، وسوف ينتفضون مجددا، وسوف ينتصرون.