حين يكون الحزب مُختصَرا بزعيمه يصبح مصيره محددا بحياة الزعيم. ولدينا، في العراق، وفي جواره العربي والأعجمي والتركي نوعان من أحزاب الشخص الواحد.الأول يخترعه سياسي محنك متمرس في فنون ترويض العقول والأفئدة، فيبنيه لبنة لبنةليصبح خاتما في إصبعه وخادمه المطيع، وكل أعضائه وأملاكه وحساباته المصرفية وأسرار علاقات الداخلية والخارجية ملك له وحده لا شريك له. فإن اختفى، موتا او شنقا أو خَرَفا (زهايمرا)، يتبعثر الحزب من بعده، ويتفتت ويتشقق، ويصبح إرثا مشاعا يتقاتل عليه الأتباع الذين أطعمهم وأشربهم، وكانوا في حضرته صُما بُكما عُميا فهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا يتكلمون.
والثاني حزبٌ كان قائما قبل ولادة الزعيم بأجيال، فاستولى عليه، إما بدبابة أو بوراثة أو بحيلة، أو نيابةً عن دولة، أو دول، أو جهاز مخابرات أجنبي، فأصبح الحزب أنا وأناالحزب، ثم يصبح الوطن، بأهله وأرضه ومياهه وهوائه، في النهاية، هو الزعيم.
وأكثر الأحزاب التي تنطبق عليها هذه القولبة أوضحَ ما يكون، وأكثر ما يكون، حزبُالبعث العربي الاشتراكي، بقيادتيه العراقية والسورية، وحزبُ العدالة والتنمية التركي.
فصدام حسين، مثلا، لم يجعل الحزب هو القائد فقط، بل جعل الوطن، بشعبه وترابه وحدوده وهويته، هو صدام حسين. وصار من يحب الوطن يحب الزعيم، ومن يعارض الزعيم يعارض الوطن، فهو شيطان رجيم، حلال رجمُه أو قتلُه وهو من الخاسرين.ولم يقصر حافظ أسد أبدا. فهو الطاعم الكاسي والواهب المعطي، يرفع ويخفض، يحيي ويميت، ولا شيء فوق صوت المعركة، وبالروح بالدم نفديك يا رئيس.
وفي ذات يوم أجرت المذيعة الأمريكية الشهيرة باربرا والترز لقاءًا تلفزيونيا مع صدام حسين، سألته خلاله، من بين ما سألته: هل صحيح أنكم تحكمون بالإعدام على من يشتم الرئيس؟ فرد بثقة كبيرة: “نعم، لأن الرئيس هو رمز الوطن”. وسألها: ” أنتم في أمريكا ألا تعاقبون الذي يشتم الرئيس؟” فردت عليه ضاحكة: ” لو فعلنا ذلك بمن يشتم الرئيس في أمريكا لأصبح الشعب الأمريكي كله في السجون.”
مناسبة هذا الكلام ما يجري في الجارة تركيا، هذه الأيام، بوجه خاص. فالرئيس طيب أردوغان يتقمص شخصية الراحل صدام حسين في كثير من الأمور والمواقف والسلوك والمظاهر والطباع. ولا ضرر في أن نسرد هنا أبرز محطات حياته السياسية، باختصارشديد.
فمن المعروف أن مصطفى كمال أتاتورك ألغى الخلافة الإسلامية وأعلن علمانية الدولة التركية الجديدة، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وقد أطلق عليه الشعب التُركي لقب أتا تورك، وتعني أبَ الأتراك. وظل الجيش والشعب معا يحرسان النظام الديمقراطي العلماني إلى أن تمكن الإسلاميون من انتزاع السلطة في أواخر القرن الماضي ليبدأوابقضم النظام العلماني خطوة خطوة، وتحويل الدولة التركية إلى إسلامية يحكمها زعيم ذو ميول ديكتاتورية وأحلام سلطانية ليس عليها خلاف.
ففي أول حياته العملية في حزب الخلاص الوطني بقيادة نجم الدين أربكان في نهاية السبعينيات مُنع أردوغان من العمل في الوظائف الحكومية عام 1998 ومن الترشح للانتخابات العامة، لأنه قرأ في اجتماع جماهيري شعرا يدعو إلى العنف والكراهية:
“مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا، هذا هو الجيش المقدس الذي يحرس ديننا”،وفي عام 1994 فاز بمنصب عمدة استانبول عن حزب الرفاه الإسلامي. وحين صدر حكم قضائي في العام 1998 بحظر الحزب استغل طيب أردوغان وعبد الله غل هذه الفرصة فانشقا عن الحزب المحظور، وأسسا حزب العدالة والتنمية عام 2001.
وقد فاز الحزب الجديد في انتخابات عام 2002 بالأغلبية، لكن أردوغان لم يستطع تشكيل الحكومة بسبب الحكم القضائي السابق فشكلها حليفُه وشريكه عبدالله غل، ولكنه كان هو الرئيس الفاعل الحقيقي، والآمر الناهي القوي الوحيد، من وراء الستار، إلى أن تمكن في العام 2003 من انتزاع الرئاسة بعد إلغاء الحكم. ويومها بسط هيمنته الكاملة على الحزب والحكومة والدولة، وضعا نصب عينيه تغيير الدستور ليصبح هو رئيس الرؤساء. وهذا ما كان، في النهاية.
ومثلما جعل الراحل صدام حسين معاركه الشخصية مع الخميني وشيوخ الكويت وأمريكا معارك الوطن والعروبة والإسلام، ها هو أردوغان يجعل حروبه الزعامية مع معارضيه في الداخل ومعارضيه في الخارج حروب القومية التركية المقدسة، ويأمرالشعب التركي بتقطيع الدولارات الأمريكية أمام الكاميرات، والبصق عليها، ودوسها بالأقدام، ويدعو إلى مقاطعة الآي فون وباقي البضائع الأمريكية انتقاما من ترمب.
وفي كلمة أمام أعضاء حزبه في مدينة ترابزون على البحر الأسود قال: إن “هدف هذه العملية هو استسلام تركيا في جميع المجالات من المالية وصولا الى السياسية، ونحن نواجه مرة أخرى مؤامرة سياسية. وبإذن الله سنتغلب عليها“.“لا يمكننا إلا أن نقول وداعاً لأي شخص يضحي بشراكته الاستراتيجية وتحالف امتد على مدى نصف قرن مع بلد يبلغ عدد سكانه 81 مليونا من أجل علاقات مع جماعات إرهابية“.
ولكن كثيرين جدا من المراقبين السياسيين لا يستبعدون أن يعود أردوغان إلى الحضن الأمريكي، عما قريب، ويطوي دعواته الجهادية ضدها، مثلما فعل ذلك، من قبل، معها ومع نتياهو وبوتين، وكان الله في عون شعوبنا التي لا تريد أن تتعلم من كوارث ماضيهاالمُكلل بالدماء والدموع.