لو فتش اي منا كل أنظمة العالم السياسية لما وجد نظير لنظامنا السياسي ولا يجد شبيها لاحزابنا الحاكمة ، نعم نحن متميزون وكل شئ لدينا مختلف ، بل وكل شئ غريب، ولو أراد اي باحث ان يجد قريبا من نظاما ، لوجد ولو بفارق بسيط ان نظام الحكم في لبنان هو الأقرب إلى نظامنا ، والسبب هو الطائفية المقيتة والمحاصصة الرخيصة . والتي تمارس اليوم تحت لافتة الديمقراطية التوافقية .
ان المشاكل غير المسبوقة التي أنتجتها آلية ديمقراطية الهويات ، كما سماها مارسيل غوشيه في كتابه ، نشأة الديمقراطية والثورة الحديثة ، هي أمراض أصبحت مزمنة في نظامنا السياسي وباتت تفتك بالزمن الدستوري عند تشكيل كل وزارة وتحول التشكيل الدستوري إلى مزاد علني تتنافس بموجبه الكتل ولمن يدفع الأكثر ، حتى باتت الديمقراطية التوافقية التي رفعوا شعارها عملية مضاربة خالفت هي الاخرى كل مضامين هذا النوع من الديمقراطية ، التي نادى بها مهاتير محمد في ماليزيا وتم تطبيقها إبان حكمه الاؤل لتتحول في أثرها هذه الدولة الاسلامية متعددة الأعراق الى دولة تعد في مصاف الدول المتقدمة .
ان هدف الديمقراطية عموما هو الوصول بالمجتمعات الى الاستقرار ، ويرى معهد الدراسات الاستراتيجية في كراسه الديمقراطية التوافقية ، ان أبرز سمات النظام الديمقراطي المستقر هي أن يتمتع بأحتمالات عالية لان يبقى ديمقراطيا ، وان ينطوي على مستوى منخفض من العنف المدني الفعلي والمحتمل ، والديمقراطية التوافقية هي استراتيجية في ادارة النزاعات من خلال التعاون والوفاق بين مختلف النخب بدلا من التنافس واتخاذ القرارات بالاكثرية ، واليوم يخرج ديمقراطيونا الجدد على كل قواعد النظام الديمقراطي عندما تنعزل الكتل الشيعية لوحدها لتقرر باسم الأغلبية اسم رئيس الوزراء متجاهلة التوافقية على الاقل من الناحية البروتوكولية وهي اشراك الكتل الاخرى لاختيار رئيسها لان رئيس الوزراء وان كان حسب العرف الغريب عن الدستور ومسلمات الديمقراطية هو ليس رئيسا للطائفة الشيعية فحسب هو رئيسا لوزراء العراق ، وهكذا لم تعد الكتل الشيعية المنعزلة في قرار الاختيار بقادرة على تمرير مرشحيها لانها تصطدم بفيتو الغائبين فيتو كتل الديمقراطية التوافقية التي عادت لتقترب من ديكتاتورية الأغلبية . وهكذا هرب محمد توفيق علاوي ، وانهزم من قبله الكثر، ، وانهزم الزمن امام توقيتاته الدستورية وهجم مرض كورونا ، ولا زال الزمن واقفا امام التشكيل الحكومي ماشيا يقطع السنين مخلفا من ورائه ارثا ديمقراطيا سييئا ونموذجا حضاريا متقهقرا امام تقدم سريع تقطعه الشعوب..
ولو تركنا الاغلبية التمثيلية وتوجهنا صوب الأكثرية الحقيقية الساكنة في الساحات والمخيمات ، اغلبية الشبيبة المنتفضة بدافع اهمال العدالة الاجتماعية ، كونها كما يصفها محمد حسنين هيكل في كتابه السلام المستحيل والديمبراطية الغائبة ، بالمقدمة الضرورية ، لوجدنا ان الاقلية الحاكمة تقف بالضد من الاغلبية المنادية اليوم بتحقيق العدالة لا في توزيع المناصب ، او توزيع الوزارات ، بل العدالة في توزيع الثروة ، العدالة في ايجاد فرص عمل للعاطلين عن العمل ، ولم يعد صحيحا معاداة من يرى ان العامل الاقتصادي هو المحرك للصراع بين المتناقضين ، فبعد ان استنفذ العراقيون كل السبل المتاحة لحكامهم ، وبعد ان مرت كل هذه الاعوام لم يعد ثمة فرق بين الانتفاضة التي يقودها الجياع وبين الصراخ الذي يتعالى من أرجاء ساحات العمل المليئة بالعاملين ، بل تم التوحد التلقائي بسبب ازدياد مناسيب الفقر وازدياد مناسيب المرض ، مقابل ازدياد مناسيب الإهمال الرسمي لحاجات الناس وتراجع أسعار الخام الذي بات يضيف الى المعادلة عوامل ازدياد النقمة على الفاعل والذي لم يعد من عالم المجهول.
ان المرحلة لا تحتاج إلى رئيس كابينة توافقي ترضى عليه الزعامات الشيعية وتباركه القيادة الكردية ولا تعترض عليه الزعامة السنية ، بل الى رئيس وكابينة قادرة على تحمل المسؤولية الآنية والملحة تحقق السلم الاجتماعي وإجراء تعديل مستعجل للوضع الاقتصادي والتهيئة السريعة لانتخابات مبكرة، وبرأينا ان مثل هذه الرئاسة وتلك الكابينة لم تعد محلا للنزاع او الدخول في عالم المزادات العلنية…