إنتفاضة العمائم الطهرانيّة .. بقلم صباح علي الشاهر

إنتفاضة العمائم الطهرانيّة .. بقلم صباح علي الشاهر
آخر تحديث:

كان صباحاً طهرانيّاً ككل الصباحات ، لكن مضيفتنا أم أرجفان نصحتنا بعدم الخروج هذا اليوم . لقد مضى علينا في هذا المخبأ ما يقارب الشهر ، لم نعرف من هي هذه المرأة التي إحتظنتنا في بيتها والتي يسمونها المهندسة ، بالأمس فقط حدَّثتنا عن نفسها وعن سرِّ هذه الدار ، بعد أن إطمأنت إلى أننا سنغادر بعد أيام إلى باكو ، وبذا لم يعد هنالك ثمة من محذور على مايبدو . أم إرجفان وكوماتا ، المهندسة الإيرانيّة ذات الوجه الأمومي ، الدافيْ الملامح ، العذب السمات ، التي أرتنا إستخر تهران بارس ، وشميرانات ، والتي كانت تقطّع لنا رغيف الخبز ، كشفت لنا عن نفسها . إنها زوجة المناضل المعروف ( جلال رياحي) عضو اللجنة المركزية لحزب تودة ومدير إذاعة ( بكي إيران) ، الإذاعة السريّة التي كنا نستمع لها بإنتظار أن يبدأ بث إذاعتنا ( صوت الشعب العراقي) .عرفنا إن هذا البيت المتواضع الذي كنا نسكنه ، إستضاف الشخصيّة العسكريّة الإيرانيّة الفذّة ( خسرو روزبة ) والذي أُخذ من هذه الدار التي كان يتّخفى بها إلى حبل المشنقة . خسرو روزبة الذي إستطاع الهرب من سجنه ثلاث مرّات ، ولم يفلح في الرابعة . لم نكن ندري لماذا بدأت تتوضح لنا أمور كثيرة ، لماذا مثلاً بدأنا نعرف من هي أم إرجفان ، ومن هو عباس أغا ، هذا الشبح الذي كان يظهر لنا فجأة في بارك شهر ، أو خيابون ناصر خسرو . عباس أغا أسم مستعار لرئيس نقابة عمال النفط زمن مصدق ، وأبرز شخصيّة نقابيّة في إيران كلها . هل مُنعنا هذا الصباح من الخروج بسبب إطلاعنا على أمور كهذه ، أم ماذا؟ سؤال حيرّني ورفيقي .
لم نستطع صبراً فخرجنا بعد خروج المهندسة ، قطعنا الشارع الرئيسي ، كنا نُمني النفس بجولة مفلسين طويلة في البازارالذي لاتصله الشمس !! واجهتنا حشود لا أول لها ولا آخر ، ماذا يجري ، وما الذي يحدث؟ كانت القيامة قائمة ، قذفت بنا الجموع إلى الجهة التي لم نكن نرغب بها ، ولا كانت هي وجهتنا ، ألفينا أنفسنا أمام نادي شعبان بي مخ ، شعبان الذي لا مخ له هو الذي قتل الدكتور فاطمي وزير خارجيّة مصدق بأمر من المخابرات المركزيّة الأمريكيّة ، شاهدنا نادي شعبان بي مخ والنار تلتهمه ، فيما بعد سمعنا أن المتظاهرين قتلوا شعبان بي مخ ثأرا ً لشهيدهم المحبوب . لم ندرك الوضع على حقيقته إلا فيما بعد ، إينما إتجهنا كانت الحشود والعمائم تتصدرها ، لم يبق مقر للشرطة إلا وأحرق . في اليوم الثاني سيطر المنتفضون على كل الإذاعات المحليّة ، لم تبق إلا إذاعة كاخ مرمر ( قصر مرمر) ، القصر الرئيسي للشاه ، كانت الحشود تدفعنا في هذا الإتجاه وفي ذاك ، قبل أن يحل الظلام عدنا إلى الدار . إستمرت الإنتفاضة ثلاثة أيام ، ثم خمدت ، لم يخمدها الشاه ، وإنما خمدت من تلقاء نفسها . تعب الناس ، وذهب المعممون إلى البيت أو المسجد أو السجن .
قلت لعباس آغا : إنها بروفة ، مثل إنتفاضة عام 1905 في روسيا القيصرية .
ردَّ عليّ: أي إنتفاضة لا يقودها الثوريون الحقيقون لن تتحول إلى ثورة ، الثورة إختصاص الحزب الثوري .
لم يكن لدينا أدنى شك فيما قاله ، فالثورة تحتاج إلى عوامل موضوعيّة وأخرى ذاتيّة ، على رأس العوامل الذاتيّة وجود حزب الطبقة العاملة ، الذي ينبري لتحويل الحالة الثورية إلى ثورة ، تلك كانت مسلمات بالنسبة لنا ، وشواهد العقود المنصرمة منذ ثورة أكتوير تعزز هذه المسلمات ، لذلك كنا نشعر بحزن حقيقي ونحن نرى مخلفات الخراب الذي غطّى وجه طهران الجميلة .
فيما بعد ، بعد عشرين عاماً تقريباً، و كنا في الجزائر العاصمة تناهت إلينا أخبار تجدد الإنتفاضة ، وحيث أن البازار والمساجد والعمائم العنصر المُحرّك لهذه الإنتفاضة ، فقد كان تصورنا أنها ستؤول إلى ما آلت إليه إنتفاضة العمائم عام 63 . كان آية الله الخميني يرسل الكاسيتات إلى إيران من مقر إقامته في باريس ، وكان هذا تأكيداً آخر على أن الإنتفاضة لن تتحوّل إلى ثورة ، وأن الشاه سوف لن يتهاوى ، ولكن الأمور جرت على نحو مغاير ، وبإتجاه مدهش ، فقد تحوّلت الإنتفاضة إلى ثورة ، ثورة شعبيّة من طراز خاص ، لا بل أستطيع الزعم بأنها أهم ثورة شعبيّة في القرن العشرين ، بناءاً على محتواها الشعبي وقاعدتها الشعبيّة ، ثورة لم تخلقها الطبقة العاملة ، ولا الجيوش ، وإنما خلقتها كل فئات المجتمع ، القاعدة الأعرض والأوسع من الجماهير ، وقادتها العمائم ، وليس الحزب العمالي ، وواجهت ليس الشاه وبوليسه السري ذي النصف مليون شخص ، وإنما كل العالم الرأسمالي ، الذي أضاع قدرته على الرد . وكان من الطبيعي أن نناقش هذا الحدث الفريد ، الذي يدشن في سوح النضال والثوريّة قوى جديدة ، لم تكن في يوم من الأيام معدودة كقوى ثوريّة . قال البعض الذي لا يريد أن يفهم الوقائع . سبب الإنتصار قوّة وتحرك حزب تودة ، وقال آخرون ، إنها التنظيمات الماركسيّة كمجاهدي خلق وفدائيّ خلق . ولكن الحقيقة ، إن راية الثوريّة والإنتفاضات ، على الأقل في عالمنا ، قد إنتقلت إلى أيدي أخرى وقوى أخرى . لقد ترهلنا بما فيه الكفاية ، منذ أصبح النضال والمركز الحزبي إمتيازاً وأمتيازات بعد أن كان تضحيّة ونكران ذات.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *