إنك تكذبين.. لا تقولين الحقيقة أبداً

إنك تكذبين.. لا تقولين الحقيقة أبداً
آخر تحديث:

عبدالزهرة زكي

تستذكر إيزابيل الليندي في حوار تلفزيوني لقاءً لها مع بابلو نيرودا، وكان هدف اللقاء هو إجراء مقابلة صحفية مع نيرودا حائز نوبل والمرشح لرئاسة تشيلي حينها لولا انسحابه من الانتخابات لصالح صديقه سلفادور الليندي والد الكاتبة الشهيرة. كانت إيزابيل يومها صحفية مبتدئة، وكان نيرودا في ذروة نجوميته شاعراً، كان مجرد اللقاء بنيرودا امتيازاً، برغم أن إيزابيل هي ابنة صديقه، بينما الحصول على لقاء صحفي من شاعر بأهمية نيرودا سيكون كنزاً بالنسبة للصحفية الشابة المبتدئة التي كانت عليها الليندي ولأيّ صحفي آخر معنيّ بالثقافة في الصحافة. تقول إيزابيل الليندي في ذلك الحوار: زرته في (إيسلانيجرا) قبل الانقلاب العسكري عام 1973م بمدة قصيرة، كان يوماً جميلاً بالنسبة له.
 كان مستيقظاً، ويرتدي معطفاً. تناولنا الغداء. وقد كان عبارة عن (كورفينا) رائعاً وسمكاً تشيلياً ونبيذاً أبيض. ثم قلت له:” هل يمكننا أن نبدأ المقابلة سيد بابلو؛ لأن الوقت قد تأخر، ويجب أن أعود إلى سانتياغو؟ فتساءل: أية مقابلة ؟. فقلت له: حسناً، لقد جئت لأجري مقابلة معك. أجابني بـ :”كلا . لن أجري معك أية مقابلة أبداً، أنت الصحفية الأسوأ في هذا البلد، إنك تكذبين دائماً. لا يمكنك قول الحقيقة أبداً، إنك تحشرين أنفك في كل شيء، لا يمكنك أن تكوني موضوعية أبداً. أنا متأكد من أنك ستختلقين قصة، حتى لو لم يكن هناك أي شيء. لماذا لا تتجهين إلى الأدب؟ حيث ستصبح كل هذه العيوب مناقب”. لم يكن نيرودا فظّاً. إنه أحد أكبر الشعراء الذين خلّفوا أجمل وأرقّ قصائد الحب خلال القرن العشرين بخلاف ما هو عليه من ضخامة جسدية. في مشهد رومانسي مفعم بالعاطفة بواحد من الأفلام التي شاهدتها في شبابي كان البطل يريد تقديم هدية لفتاته في الذكرى الأولى لارتباطهما، فاختار لها كتاباً. كانا عند البحر حين قدمه لها، وكانت هي في منتهى سعادتها حين طالعت عنوان الكتاب ومؤلفه:” أوه، شعر؟ بابلو نيرودا!”. لقد نسيتُ الفيلم، وحتى اسمه، لكن بقي حاضراً في بالي ذلك المشهد الذي لا ينسى، وتلك  الهدية. 
من الواضح أن إيزابيل الليندي تستعيد ذكرى اللقاء وما حصل فيه بشيء من التقدير وبمشاعر العرفان التي لا تخفي معها سرورها بما حصل بعد الغداء وبما سمعته من نيرودا. ” لماذا لا تتجهين إلى الأدب؟ حيث ستصبح كل هذه العيوب مناقب”، هذه هي القيمة المهمة التي ساعدت، ربما، في أن تكون الليندي كاتبة، بل واحدة من أبرز كاتبات العقود الأخيرة. مرات كثيرة يحتاج المرء إلى صدمة تضعه الموضع الصحيح الذي يجب أن يكون فيه. لسنا دائما على معرفة واضحة بالمهارات التي نتوفر عليها، ولا بالمجال الذي يمكن فيه للمهارة أن تكون فعلاً مهارة، لكن خبرات الآخرين الجديرين بالثقة تساعد، حين الإصغاء إليها باهتمام جاد، في اختصار كثير من الوقت الضائع والجهود ليصل المرء بعدها إلى موضع قدرته الحقّة، وقد لا يصل ما لم يحسن الاهتداء. لقد وجدت الليندي تلك الصدمة مبكرةً، وكانت من واحد من أكبر شعراء العصر. بالمصادفة كنت اليوم (الثلاثاء)، قبل أن أكتب هذا المقال، أقرأ في مذكرات غابرييل غارسيا ماركيز، وهي قراءة متقطعة، وقد وقفت عند نشره مقالاً، في بداياته الشابة، في واحدة من الصحف المحلية في كولومبيا، يوضح ماركيز أنه نشر المقال باسم مستعار، ويبرّر التخفّي وراء اسم مستعار، بالحاجة إلى أن يطمئن إلى هذه البداية، لا يريد لاسمه أن يتورّط ببداية متعثرة. لكن الخلاصة الأهم، غير التي يبرر بها ماركيز، هي في دَأبِ الكاتب الكولومبي، مغيّر رواية القرن العشرين، للسعي من أجل بلوغ موضعِ موهبته الحقيقي. ماركيز هو أيضاً، إنما قبل إيزابيل الليندي، جاء إلى الرواية من  الصحافة. 
في الواقع لا تفاضل بين المجالين؛ لا أفضلية لمجال على آخر، حيثما ينجح المرء فهو في المجال الأفضل لقدراته وإمكاناته وموهبته. كان هذا ما يريده بابلو نيرودا في معرض موقفه العاصف أمام الصحفية الشابة إيزابيل الليندي. (الكذب) و(التلفيق) في ما قال هما كناية عن (الخيال) الأدبي. لا أدب بلا خيال. ولكن لعل الخيال مطلوب في أي مجال في الحياة والعمل، وبضمنها حتى الصحافة، إنما آليات ودواعي عمل الخيال هي ما تختلف من مجال إلى آخر، فقط في الأدب والفن يكون الخيال بعضاً عضوياً من آلية الانتاج. ولهذا اقترح نيرودا على الصحفية الشابة أن تجد ضالّتها في الأدب. لا مجال للخيال في آلية تنفيذ العمل الصحفي. يحتاج الصحفي، وسواه، الخيال إنما في التخطيط لعمله وليس لتنفيذه وكتابته. في أثناء عملي الصحفي مديرا لتحرير صحيفة المدى كنت أراقب بدقة خاصة تقارير صحفي شاب جاء مثلي من الأدب إلى الصحافة، كان هذا الشاب يسمح لخياله بحرية العمل حتى وهو يكتب خبراً، كنت أخشى هذا الخيال الذي يشتغل في غير موضعه. الخبر الصحفي لا يحتمل كذبا، الخبر لا يطيق الخيال. بابلو نيرودا هو أيضاً كان كذاباً ليس في شعره فقط، حتى في مذكراته المدهشة التي خلفها لنا لتصدر بعد وفاته، إنه رجل خيالٍ خصب وحيوي دائماً. خيال الشاعر والأديب يدس أنفه في أي عمل له ما لم يتحرر هذا العمل من الطبيعة الشعرية والأدبية لتفكيره، استمتعت كثيرا بقراءة تلك المذكرات، بخيالها وبكم الكذب/الخيال الذي فيها وقدرة الشاعر على أن يوهمنا بحقيقة ما هو نسج خيال.. كانت تلك نصيحة حازمة من شاعر خبير لصحفية مبتدئة. تستعيدها الصحفية، وقد تحولت فعلاً إلى واحدة من أبرز كاتبات العصر. لقد استعادت إيزابيل الليندي بمسرة وامتنان ذلك (التقريع) وتلك النصيحة في لحظة استثنائية في حياتها؛ وكانت تلك اللحظة مترافقة مع سعادة عيشها لواحدة من أبرز محطات تكريمها في حياتها الأدبية.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *