عام 1956، صدرت مسرحية بعنوان “أنظر وراءك غاضبا” لكاتب بريطاني ناشئ هو جون أوزبورن ليؤسس نجاحها الجماهيري ما بات يُعرف بين النقّاد بـ”أدب جيل الغضب” الذي مثّله، إلى جانب أوزبورن، الألماني غونتر غراس والأميركي نورمان ميلر. ميزة جيل الغضب لم تكمن في تمرّد كتّابه على قيم تؤمن الأغلبية بها. ثمة كتّاب وفنانون عظام تمرّدوا على قيم الأغلبية، وتبنّوا قيماً جديدة مستهجنة من جانب سوّية البشر، وصدموا الرأي العام بأفكارهم ودفعوا ذوي العقل منهم إلى التأمّل النقدي في طرائق تفكيرهم ونظرهم إلى العالم. أدب وفن “جيل الغضب” صدم جمهوره بغير ذلك. إبداعه تمثّل في أنه قال علناً ما كان يدور في عقول جمهرة كبيرة لم تجرؤ على الإفصاح به. كان إبداعاً يتحدّث باسم جيل. تمرّده كان ينطق باسم جيل غاضب لا كتّاب غاضبين. يكمن إبداعه، جديده، في أنّه صدم القارئ ومُشاهد المسرح بالتعبير علناً عمّا ما يدور في عقله ولا يجرؤ على التعبير عنه. أدب جيل الغضب كان فرويد خمسينات وستينات القرن الماضي: دفعة هائلة تزيح ذلك العبء الكبير الجاثم فوق صدور الشباب: عبء يبدأ بالإحساس بالخطيئة حين يعاقب المدرّس تلميذه بالضرب (من ينسى فيلم بنك فلويد “الجدار”؟) ، يمرّ بضرورة الإحساس بأنه مذنب إن لم يحترم تراتب السنّ وتجرّأ فناقش شخصاً أكبر منه، خطيئة أن “يعلِ العين على الحاجب” إذ يحتجّ على ذوي الشأن طبقياً أو سياسياً ويصل إلى تعذيب النفس بسؤال “هل أنا خائن لوطني؟” إذ يستنكر الحروب الإستعمارية أو العبثية التي يخوضها “وطنه”. شعور داخلي بالذنب لعدم الامتثال يتربّى معنا منذ الطفولة لينتج مجتمعاً ممتثلاً، ذليلاً وخانعاً. أدب جيل الغضب مزّق قناع النفاق الاجتماعي ببساطة. أدب جيل الغضب كان طفل “ثياب الملك” لهانس كريستيان أندرسون. طفل يصطحبه والداه لمشاهدة الملك الذي أقنعه الخيّاط المخادع بأنه خاط له بدلة لن يراها غير المُخلصين له. يهبّ الجمهور مذهولاً ببدلة الملك. ينطلق صوت الطفل بريئاً: لكن الملك عار. “هل يكفي أن نقول إن البشاعة واستسهال القتل والتفنّن في ممارسته باتت جزءاً من حياة أبناء منطقتنا الذين عاشوا حروب لبنان وسوريا والعراق الوحشية؟ هل يكفي أن نجرّم النظم الحاكمة التي أطلقت كل هذه الغرائز الوحشية؟” ومض ما سبق في فكري وأنا أقرأ لاهثاً رواية محمد غازي الأخرس التي لم تحظ بعد بما تستحق من اهتمام، ليلة المعاطف الرئاسية. أتُرانا على عتبة ولادة أدب “جيل غضب” عراقي؟ وجه من وجوه الرواية هو توالد الدم والبشاعة والعنف، عنف يولّد عنفاً، دم يوّلد دماً، بشاعة تولّد بشاعة. قبل “الأخرس” بخمس سنوات نشر أحمد سعداوي روايته المهمة ذائعة الصيت “فرانكشتاين في بغداد”. فرانكنشتاين البغدادي جثّة تعيد لملمة نفسها لتتحوّل إلى قاتل. القاتل هو القتيل. عمل مبهر بالتأكيد. رواية محمد غازي الأخرس تضع توالد الدم في سياق مذهل، وهذا وجهها الثاني. الرواية روايتان متوازيتان ينتقل القارئ فيها من فصل عن الحرب مع إيران إلى فصل عن حرب 2006- 2007 الطائفية. لا تلتقي الروايتان ولا شخوصها إلا في النهاية. مسار من البشاعة ألف الناس معه البشاعة. ثمّة وجه ثالث، هو ما شدّني ل”ليلة المعاطف الرئاسية”: هو وصفه لـ”الشر المبتذل”. لا أدري إن كان الأخرس قرأ عمل هنه أرنت، وعنوانه الفرعي هو هذا. لكن روايته تجسّد هذا “الشر المبتذل” بالتأكيد. أوائل ستّينات القرن الماضي، أشعلت هنه آرنت -لعلّها أهم منظّري الفكر الليبرالي في تلك الحقبة- ما أسماه أحد الكتّاب البارزين “حرباً أهلية في الوسط الفكري والسياسي اليهودي”. كتاب آرنت الأهم “أصول التوتاليتارية” كان قد صدر قبل حوالي العقد من “إشعالها” لتلك الحرب، لكن كتيّبها “آيخمان في القدس” حوّلها إلى أيقونة في أعين البعض وشيطاناً خائناً لليهود في أعين آخرين. آيخمان كان من كبار مجرمي النازية. هرب إلى الأرجنتين، لكن موساد الدولة التي لم يمضِ على تأسيسها أكثر من إثني عشر عاماً اصطاده ونقله إلى إسرائيل لتتحوّل محاكمته إلى حدث تاريخي. اعترف الرجل بمسؤوليته وتم تنفيذ حكم الإعدام الوحيد المشرّع قانونياً في تاريخ إسرائيل بحقه (استخدمت تعبير “الحكم المشرّع قانونياً” استباقاً لاتّهام بإغماض العين عن جرائم قتل عشرات ألوف الفلسطينين التي نفّذ وينفّذ منها المجرمون من دون عقاب حتى اليوم). حضرت آرنت محاكمة آيخمان العلنية بوصفها مراسلة لمجلة “نيويوركر”. ما هزّ مشاعرها، وهي ابنة عائلة حُرق كثير من أبنائها، لم يكن وصف الجرائم ولا شغل محامي الدفاع أو نقيضه الادّعاء العام في النقاش حول مسؤولية آيخمان عن الجرائم. كانت مأخوذة بمعاينة تفسير آيخمان لجرائمه التي لم ينفِ ارتكابها. وكانت مأخوذة بمعاينة الحاخام اليهودي الذي وجّه الاتّهام له. كانت مـأخوذة بكيفية رؤية المجرم لجريمة ارتكبها. يجيب عن سؤال: هل أنت من أصدر أمرا بإطلاق الغاز السام على السجناء؟ يجيب آيخمان (من ذاكرتي، قرأت الموضوع قبل ثلاثين عاماً): كان ابني على أبواب الدخول إلى الجامعة وعليه الانتماء للحزب الوطني الاشتراكي (النازي). من أصدر لك التعليمات بضخ الغاز السام على المساجين؟ يجيب آيخمان: ظللت أعمل من أجل ألمانيا طوال عمري. وكنت أرى آخرين أقل مني إخلاصاً يصعدون وظيفياً. هنا كتبت آرنت عملها عن “ابتذال الشر” أو “الشر مبتذلا”. تنهار القيم الأخلاقية للمجتمع كلّه في ظل مجتمع شمولي. نعم، هناك أيديولوجيا “شرّيرة” تشرعن الشر وتبرّره. لكنها، إذ تسيطر على المجتمع حين تقبض على سلطة الدولة، تنشر قيمها حتى بين من لا يؤمن بأيديولوجيتها، بل حتى بين معارضيها وضحاياها. في ظل النازية كان هناك الـ “يندريتسه”: شباب يهود يساعدون النازيين. الشر؟ تسأل آرنت آيخمان، وهو مدرك لمصيره، لا يرى في ما فعله غير وظيفة قام بتأديتها بإخلاص. تعاين آرنت المحاكمة فتصف الحاخام اليهودي الذي يلقي خطباً عصماء عن الجرائم: أليس هو غوبلز (وزير إعلام هتلر) اليهودي؟ لم أتوصّل إلى ترجمة أفضل لـ The Banality of Evil من “ابتذال الشر”، لكن الترجمة غير دقيقة بالتأكيد. الابتذال هنا يعني ممارسة الشر كما لو كان وظيفة روتينية، اعتيادية، يمارسها المسؤول الأمني مثلما يمارس موظّف الضرائب عمله، وظيفة يسعى إلى أدائها بكفاءة لكي ينال رضا رؤسائه ويتقدّم في مجال عمله. “كأن التمرّد والتماهي مع المتمرّدين كامن في جيناتي” الجنرال “كوكز” في رواية الأخرس هو آيخمان بالضبط. طوال الرواية، لا يتحدّث كوكز أيديولوجياً: لا يبرّر ولا يفسّر ولا يناقش. كوكز فخور بأنه حصل على ثقة القائد بإيلائه مهمة رئاسة “الهيئة العليا للانتصار على الخوف”، هيئة تشتغل وفق أعلى المعايير العلمية، تدرس جينات قتلى الحرب، تفصل جثث “الجبناء” عن جثث “الأبطال”، تشتغل علمياً على تشخيص الفوارق الجينية بين الجبناء والأبطال، تقترب من الوصول إلى حل المعادلة التي تمكّن الدولة من القضاء على جينات الجبن، لكن اختفاء العالمة التي صاغت المعادلة يجبر الجنرال على اللجوء إلى شاعر ليفكّ لغزها. لا معنى لسؤال الجنرال كوكز أو الشاعر عن مغزى كل ذلك. في النهاية، يكتشف الشاعر أن واحدة من تلك الجثث هي جثة أبيه. ينازعه الجنرال: هي جثة أبي. من هذه الجثث يولد الشاعر والجنرال. في الرواية الموازية أب أيضاً. أستاذ عوّاد، مدير المدرسة المتقاعد يستنجد بتلميذ درّسه قبل عقدين لمساعدته على إنقاذ أولاده الثلاثة المختطفين في حرب الطوائف بعد سقوط صدّام. أستاذ عوّاد كان مديراً لامعاً، يقول التلميذ بطل الرواية الموازية. ابتكر نظاماً حظي بتشجيع السلطات العليا: لا عقوبات تافهة مثل ضرب المعلّم لتلاميذه. نظام الأستاذ عوّاد الذي يفتخر به يقوم على تشجيع الجميع على مراقبة الجميع. وكل ما سبق كان مدخلاً، مدخلاً فقط، لسؤال أسعى للإجابة عنه في مقال/ مقالات لاحقة: نحن وتاريخنا الحديث. هل يكفي أن نقول إن البشاعة واستسهال القتل والتفنّن في ممارسته باتت جزءاً من حياة أبناء منطقتنا الذين عاشوا حروب لبنان وسوريا والعراق الوحشية؟ هل يكفي أن نجرّم النظم الحاكمة التي أطلقت كل هذه الغرائز الوحشية؟ كيف تربّينا على قيم “الشجاعة” في ظل نظم تزرع فينا الخوف والخنوع وتريد لنا أن نظل خائفين؟ أسئلة لا تهدف إلى التأمّل في التاريخ فقط، بل هي مسعى لفهم ما يجري اليوم في العراق على الأقل. [أي مفارقة! نصف قرن بالضبط مضى حين نشرت شهرية مصرية أدبية متخصصة مقالاً عن “مسرح الغضب لدى جون أوزبورن” لمن رأت فيه، مشكورة “ناقداً أدبياً عراقياً متميّزاً” لم يكن في الواقع غير ابن ثماني عشرة سنة يدرس الطب، هو كاتب هذا المقال. كأن التمرّد والتماهي مع المتمرّدين كامن في جيناتي. هكذا قال إعلامي بارز وهو يقدّمني لمستمعيه].