ظل المرتبطون، طائفيا أو عاطفيا، بالنظام الإيراني، يروجون، بمناسبة وبدون مناسبة، أن الملالي، بقيادة خامنئي، أثبتوا حنكة ودهاءً وجدارة في السياسة وفنونها إلى الحد الذي جعلهم يحتلون أربع عواصم عربية، ويمسكون بمصائر شعوبها التي كانت عصية، بل يتلاعبون بأوربا وأمريكا، حتى تمكنوا من إرهابها وتركيعها وإجبارها على الاعتراف بقوة (جمهوريتهم الإسلامية)، والتعامل معها بحذر شديد.
وكنا نقول لهم إن تلك القوة مجرد وهم، لأن القوي الحقيقي هو الذي يعمق جذوره في الداخل، أولا، ثم يخرج، بعد ذلك، إلى حيث يشاء.
وقد علمنا التاريخ استحالة أن تستطيع دولة أن تخرج من حدودها لتحارب غيرها إن لم تكن آمنة على تماسك جبهتها الداخلية وحمايتها من أي اختراق. والأمثلة كثيرة، آخرها جمهورية صدام حسين، ومعمر القذافي وعلي عبد صالح وشاوشيسكو وآخرين.
ومن أول قيام دولة الخميني في العام 1979 أصبح سلاح مخابراتها وحرسها الثوري هو استخدام المال الإيراني لاستدراج الطائفة الشيعية في دول الجوار، واستغلال المغفلين والموتورين والجهلة الطائفيين المتعصبين من أبنائها، وتمويلهم وتسليحهم وتحريكهم لإثارة النزاعات المذهبية والقومية والدينية، وزعزعة الأمن فيها، وفرض إرادتها بقوة السلاح على الأوضاع السياسية فيها.
وهذا ما فعلته وتفعله في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وفلسطين. ونسي المرشد الأعلى ورفاقه الملالي أن هذا السلاح ذو حدين، وأن في إمكان غيرهم أن يلجأوا إليه دفاعا عن النفس، بأي ثمن، خصوصا وأن الجبهة الداخلية في إيران، وفي ظل حكم الملالي بشكل خاص، أكثر من غيرها هشاشة وقابلية للاختراق.
ورغم أن إيران دولة كبيرة وغنية بشعبها ومواردها وتاريخها الحضاري العريق، إلا أنها، برغم انتصاراتها الظاهرية في خارج حدودها، وبرغم سعة انتشار حرسها الثوري وتكاثر وكلائها ومليشياتها في المنطقة، تنام على مئات القنابل الموقوتة القابلة للانفجار، ربما بشرارة طارئة لم يتوقعها شطار النظام الإيراني، ولم يحسبوا حسابها.
وقد تكون التظاهرات الجماهيرية الأخيرة بدأت عفوية، وبسبب الغلاء والبطالة والفساد. ولكن من الصعب أن نعتقد بأن الأيدي الخفية الداخلية لم تبادر إلى استغلالها ومدها بالقوة والانتشار، ومنها وأهمها المعارضة الإيرانية، مجاهدي خلق، وجبهات وأحزاب وقوميات لم يرحمها النظام، ومارس ضدها كل أنواع القمع والتهميش والتجويع.
هذا في الداخل. وفي الخارج هناك دول كبرى وصغرى عديدة تترقب فرصة ذهبية مثل هذه لتصب أنهارا من الزيت على أي نار تشب في منزل النظام الإيراني، لتَشفي غليلها، أو على الأقل لتشغله بنفسه، ليريح ولا يستريح.
ولو كان للملالي شيء من الحكمة والحنكة، كما يدعي عشاقهم الطائفيون، لتفرغوا لتعزيز جبهتهم الداخلية، أولا وقبل أي شيء، بالعدل والمساواة وعدم التمييز العرقي والطائفي بين إيراني فارسي وبين إيراني بلوشي، وعربي، وأذري، وتركماني، وكردي، وبتوزيع الدخل القومي، بعدالة، بين الأقاليم، وتحريم الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ.
تخيلوا حال إيران وحال شعبها وشعوب المنطقة، وربما العالم أيضا، لو كان النظام الحاكم فيها سويا مهذبا مسالما بَنّاءً يستثمر حيوية شعبه وإنجازاته وطاقاته الإبداعية العظيمة وثروات الدولة الإيرانية الطائلة في إسعاد شعبه وإعمار مدنه وقراه وتحديثها وإغنائها، وفي ترسيخ الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة، وفي نبذ الحروب والعنف والظلم والإرهاب، ولو نأى بنفسه وشعبه عن ثقافة العصور الجاهلية وعاداتها وطقوسها المتخلفة.
ثم دققوا معي في حجم إنفاق النظام الإيراني على إشعال الحرائق في العراق وسوريا ولبنان واليمن والسودان والبحرين وغيرها، وتدبير المؤامرات والدسائس والاحتراب، وتمويل وتسليح وتدريب المئات والآلاف من القتلة الإرهابيين، شيعة وسنة.
وابحثوا في آثار العقوبات الدولية على حركة الاقتصاد الإيراني، وانعكاساتها المدمرة على حياة الإيرانيين. ثم فتشوا، بعد ذلك، عن الضرورة الوطنية والقومية والدينية التي حكمت على الولي الفقيه بأن يناطح العالم، ويدفعه دفعا إلى فرض تلك العقوبات وإغراق الملايين الإيرانية بالتعاسة.
واحسبوا كم خسر المواطن الإيراني مما كان يكسبه في دول الخليج والمنطقة والعالم، بسبب حكامه المشاكسين.
واستنادا إلى جميع تقارير المعاهد الدولية يتأكد أن أهم أسباب تعاسة الإيرانيين هو ارتفاع معدلات البطالة، وتقييد الحريات، فضلا عن الأثار السيئة للعقوبات الدولية المفروضة على النظام.
وتكرر تلك التقريرالقول، سنويا، إن الإيرانيين يحتلون المرتبة الأولى في الفقر وصعوبة الحياة المعيشية بين 19 بلداً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
فنصفُ المواطنين الإيرانيين عجزوا في العام الماضي عن توفير الطعام والسكن لأسرهم في بعض الأحيان.
وبرغم ذلك فإن المرشد الأعلى يعتقد بقوة، ولا يقبل أي نقاش، بأن الشعب الإيراني سوف يتحمل أقسى أنواع الضنك والعوَز والبطالة، ويضحي بحريته وكرامته من أجل أن يرى رايات الخميني ترفرف على شواطيء البحر الأبيض المتوسط والأحمر والخليج.
وقد يكون هذا هو سر مباهاة الولي الفقيه وأعضاء حكومته وكبار قادة جيوشه ومليشياته بانتصاراتهم. وقد يكون، هو نفسُه أيضا، سرَّ تهديداتهم للدول الكبرى والصغرى معا، واعتقادِهم بأنهم أدخلوا إيران إلى نادي الدول الكبرى التي تقررمصير الكون.
ويصاب بهذا الوهم كثيرون إذا كانت نفوسهم مريضة، وشخصياتهم ضعيفة، ولا يعرفون حدودهم. فالقصير يظن أنه طويل، والدميم وسيم، واللص عفيف وشريف وأمين، والظالم عادل، والأرنب أسد، والقرد في عين نفسه أمه غزال.
وخلاصة القول في هذه المقالة أن جمهورية الملالي الشطار المحنكين الأذكياء الأقوياء لن تعود هي نفسها بعد تظاهرات الأيام الأخيرة، حتى لو تمكن الحرس الثوري من وأدها بالرصاص الحي وقنابل الدخان.
فهي إنذار كبير بجدية احتمال النهاية المقبلة ينبغي على المرشد الأعلى ورفاقه الملالي الآخرين الاستماع إليه، إن كانوا يعقلون.