تكمن أهمية إيران بنظامها الحالي في مراهنتها على أن الوقت يعمل لمصلحتها. انتظرت طويلا في اليمن كي تقطف ثمار استثمارها في الحوثيين. كان في استطاعة الحوثيين قتل الرئيس علي عبدالله صالح بعيد سيطرتهم على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014، لكنّهم انتظروا إلى أواخر العام 2017 قبل الإقدام على خطوتهم القاضية بالانتهاء من الرجل الذي كان فقد عمليا كل أدوات السلطة منذ تسليمه الرئاسة إلى نائبه عبدربّه منصور هادي في شباط – فبراير 2012. لم يكن من همّ لدى عبدربّه منصور، الذي يدعي أن علي عبدالله صالح أساء معاملته طوال خمسة عشر عاما، سوى تصفية حساباته الشخصية مع الرئيس اليمني السابق. وهي تصفية حسابات صبّت عمليا في مصلحة الحوثيين (أنصار الله)، أي في مصلحة إيران.
كان العراق، وليس اليمن، منطلقا جديدا لإحياء المشروع التوسّعي الإيراني الذي فقد زخمه في مرحلة معينة، خصوصا بعد شبه الهزيمة الإيرانية في حرب السنوات الثماني مع العراق بين 1980 و1988، وهي حرب لم تؤدّ سوى إلى تراجع إيراني مؤقت. كان التراجع تمهيدا للانقضاض مجددا على دول الجوار، على رأسها العراق، حيث ارتكب صدّام حسين حماقة ليس بعدها حماقة تمثلت في احتلال الكويت في صيف العام 1990، غير مدرك لعواقب مثل هذه المغامرة التي ستعيد إحياء العدوانية الإيرانية وروح الانتقام من كل ما هو عربي في المنطقة بكلّ أشكالهما.
ليست الانتخابات العراقية المقبلة التي ستجري خلال أشهر قليلة سوى استكمال لمشروع وضع اليد الإيرانية على العراق بطريقة دستورية، وذلك بعد تسليم جورج بوش الابن البلد على صحن من فضّة إلى إيران في العام 2003. انتظرت إيران خمسة عشر عاما للوصول إلى انتخابات 2018 التي ستتوّج بها سيطرتها على العراق، كما تأمل ذلك. تتمثل تلك السيطرة برئيس للوزراء تابع لها يحظى في الوقت ذاته بغطاء أميركي. هل أفضل من الدكتور حيدر العبادي للعب هذا الدور المعدّ له سلفا بعد إجباره على أن يكون حليفا لبعض تشكيلات “الحشد الشعبي” الذي ليس سوى مجموعة ميليشيات مذهبية ذات عناصر عراقية تابعة لـ“الحرس الثوري” الإيراني؟ انضمّ الجزء الأكبر من “الحشد” إلى العبادي. ما لبث هذا القسم الأكبر أن أعاد النظر في تحالفه مع رئيس الـوزراء. لا بد من ممارسة ضغـوط على العبادي بين وقت وآخر لإقناعه بأنْ لا مجال للخروج من تحت الوصاية الإيرانية، وأن طهران ممسكة بكل خيوط اللعبة العراقية.
يمثل “الحشد الشعبي”، إيرانيا، مستقبل العراق ويجسد المشروع الإيراني في البلد. معظم قياديي “الحشد” قاتلوا مع إيران ضد العراق في حرب ما بين 1980 و1988. هؤلاء إيرانيون قبل أن يكونوا عراقيين. هؤلاء تابعون للولي الفقيه ولا ولاء لهم سوى لغيره. ليس أفضل من هؤلاء ليكونوا حراسا لإيران على العراق وعلى من هو في موقع رئيس الوزراء.
شكّل حيدر العبادي تحت إشراف “حزب الدعوة” الذي ينتمي إليه تحالفا لخوض الانتخابات المقبلة. سيكون منافسه نوري المالكي الذي يشرف “حزب الدعوة” أيضا على التحالف الذي أنشأه تحت تسمية “دولة القانون”. إنها “دولة القانون” التي جاءت بـ“داعش” إلى الموصل في العام 2014 من أجل تبرير عملية تدمير إحدى المدن العراقية الأكثر عراقة والأكثر تنوعا.
أطلق العبادي تسمية “نصر العراق” على التحالف الذي يخوض به الانتخابات والذي يعتبره تحالفا “عابرا للطوائف”. عاجلا أم آجلا، سيتبيّن إلى أي حد هناك قدرة لدى أي سياسي عراقي على التملّص من الوصاية الإيرانية.
باختصار شديد، تتنافس في الانتخابات العراقية إيران مع إيران. يتنافس العبادي مع نوري المالكي. يتنافسان على أيّ منهما أكثر إيرانية من الآخر. ميزة العبادي أنه يوفر غطاء أميركيا لإيران في العراق. وهذه نقطة تعمل لمصلحته. الثابت في المعادلة كلها هو “الحشد الشعبي”. المطلوب أن لا يكون مستقبل العراق وحده، بل مستقبل كل دولة تسعى إيران إلى أن تكون تحت وصايتها. فـ“الحشد الشعبي” في العراق هو الميليشيات الإيرانية في سوريا التي أبقت بشّار الأسد في دمشق وإن في دور الواجهة للإيرانيين والروس. و“الحشد الشعبي” هو أيضا “أنصار الله” في اليمن، و“حزب الله” في لبنان، والميليشيات الإيرانية التي تهدّد البحرين من الداخل.
نجحت إيران في لبنان، خصوصا بعدما حوّلت “حزب الله” إلى أداة فعالة على الصعيدين الإقليمي والعالمي. لكن نجاحها الأساسي يبقى في العراق. إنه النجاح الذي سمح لها بتغيير التوازن الإقليمي تغييرا جذريا. لم يكن الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران الذي هب لمساعدة العراق في حربه مع إيران في العام 1981 مخطئا في ذلك الزمن. قال بكل بساطة في تبريره لدعم نظام على رأسه صدام حسين، على الرغم من أنه لم يكن معجبا به بأي شكل، إن الحدود بين العراق وإيران هي حدود بين حضارتين كبيرتين وليست مجرّد حدود بين دولتين. إنّها حدود عمرها مئات السنوات بين الحضارة الفارسية والحضارة العربية. هذه الحدود، على حدّ تعبير الرئيس الفرنسي الراحل، تتحكم بالتوازن الإقليمي. انهارت تلك الحدود لمصلحة إيران في ربيع 2003. انهار معها كل التوازن الإقليمي بعدما قرر جورج بوش الابن اجتياح العراق ونفّذ ذلك بالتفاهم الضمني مع إيران. لم يعد للأكراد الذين شاركوا في عملية الانتهاء من نظام صدّام حسين مكان في العراق الجديد الذي قرّرت إيران إعادة تشكيله بضوء أخضر أميركي. كان من بين أبرز الدلائل على وجود هذا الضوء الأخضر الانسحاب العسكري الأميركي من العراق في عهد باراك أوباما. ترافق الانسحاب مع استسلام أميركي كامل لنوري المالكي، رئيس الوزراء وقتذاك (في العام 2010)، وهو استسلام لإيران ورغباتها.
تتنافس إيران مع إيران في الانتخابات العراقية المقبلة. ما يشهده العراق حاليا هو تتويج لجهود بدأت في العام 1979 وقادها وقتذاك آية الله الخميني الذي اعتقد أن العراق سيكون لقمة سائغة لإيران. الخوف كل الخوف من أن ما تقوم به إيران في العراق سينسحب على لبنان المتوقع أن يشهد انتخابات نيابية في أيار- مايو المقبل بموجب قانون وُضع على قياس “حزب الله”.
تركّز إيران على تعميم تجربتها في المنطقة، وهي تجربة تقوم أساسا على قتل القوى الحيّة في المجتمع وجعل السلطة أسيرة “الحرس الثوري”. من هذا المنطلق، لا يمكن الاستخفاف بأي شكل بما يجري في العراق وما يحضر له في لبنان. إذا كان العراقيون بلغوا مرحلة لم تعد لديهم فيها خيارات كثيرة… هل يستسلم اللبنانيون ويستعدون من الآن لدخول مرحلة الوصاية الإيرانية المغطاة بمجلس نيابي يمتلك فيه “حزب الله” مع حلفائه أكثرية النصف زائدا واحدا، وهي أكثرية يستطيعون من خلالها عمل الكثير؟