باستثناء تجارب خزفية متطرفة، أكثر انسياقا للعشوائية أو تلبية للمظاهر المتأزمة، الآنية، فان إعادة قراءة فلسفات الحداثة ـ وما بعدها ـ في الإبداع العالمي ـ الأوربي تحديداـ لا تلخص مدى حفرها في الطبقات المندثرة للحضارات القديمة حسب، بل تأكيدها على ضرب من الشك بكل ما ينتمي إلى المستقبل.ومع أن (نغمة) التشاؤم، والأسى، والإحساس المرير الذي تركه (سيزيف)، ومظاهر العبث، والعنف، واتساع الفجوات بين النخب الثقافية والمتلقي العام … الخ، كان لها حضورها الدائم في الثقافات، إلا أن ردود الفعل، لم تكن تعمل إلا على قهر عوامل: القهر. وكأن قانون: كل ما عليها زائل، وما يأتي من المجهول يذهب ابعد منه، لا يمثل الحياة، بل إغواء لصياغة برامج تدعم الديمومة، بدل القنوط، واستساغة الاحتماء بالغاز القدر، ميتافيزيقاه، وما يتضمنه من انساق تعمل خارج إمكانيات (الدماغ) والعقل. وإذا كنت أتحدث عن فن (الخزف)، وليس عن (الجسد) أو (الوعي) أو (الثقافة)، فان أقدم النماذج كانت قد تأسست وفق مبدأ استحالة فصل الوظائف العملية عن العوامل التي تضافرت على تشكيلها، كعلامة، فان الخزف ـ مع المجسمات والرسومات ـ كان يتضمن مجالا سحريا / رمزيا سمح للنخب أن تمنح (النوع البشري اختلافا عن الأنواع الأخرى، وعن نوعه أيضا ، مسافة في التأويل، والتحكم، والغايات. فامتياز الأصابع لم يكن متخصصا بالبحث عن القوت، والدفاع عن النفس، بل عن بلورة قدرات أعلى في صياغة الأهداف، والمثل.وإذا كانت (الغريزة) لاواعية في أداء عملها، فإنها سرعان ما ستعمل باستقلالية تسمح لها أن تطور مهارات ينفرد بها عدد من البشر تذهب ابعد من جمع القوت، والحماية، أو حتى العدوان، نحو مبررات معقولة لبناء دلالات، لا علاقة لها بالنافع، لكن من الصعب القول إنها: جمالية خالصة. ثمة ـ في هذا النظام المعقد للتخصص في آليات الحفاظ على ديمومة كل ما كان يراه يزول، يغيب، انشغالا أنتجه العقل، ببناء العالم الافتراضي، لعدد من الرموز، والتصورات، تؤكد أن التشبث بالديمومة يتجاوز اللا وعي، نحو ديمومة تستدعي التنقيب في طاقاتها الكامنة، تجعل منها، بالدرجة الأولى، معادلا للموت ـ والاندثار.انه مثال لقاعدة عامة، ولكن الأدوار الحضارية التي نشأت في بلاد وادي الرافدين، تمثل نموذجا يستدعي قراءة أن رواد (الفن) الأوائل، كانوا على معرفة فلسفية ـ وتقنية ـ سمحت لهم بقراءة متقدمة لأكثر العناصر صلة بهذا القانون: العناصر الأساسية: الهواء/التراب/ الماء/ والنار، ولكنهم، بعد تحليل ـ وربما تفكيك ـ هذه العناصر، والعثور على علاقات تجعل من عملها موحدا، لابد أن برز: العدم ـ الكامن في الزمن ـ قهرا يتطلب قهره اختراع تمويهات حقيقية، بالأحرى: حقائق اصلب من أن تتعرض للتقويض. والسؤال الذي لم تجب عنه الفنون، ولم يجب عنه الفنان، بوصفه غدا أكثر رهافة، هل كان العالم الافتراضي قائما في القانون، وفي الخامات، أم كان قد تم استحداثه، مع نشوء القشرة العليا للدماغ، بوظيفتها المبكرة في: إعادة إجراء حساب لعمل الوعي، إزاء القهر ـ والتدمير؟ أي التفكير في ماهية التفكير، وهل ثمة وسائل لا تجعل منه لغزا عصيا على الإدراك..، أم أن الوعي، بما هو عليه، لم يستحدث أدواته من العدم، ولكن العلل، والأسباب المولدة للأسباب، كامنة في انساق البرنامج، وان مهمة (الصانع/الفنان) الأمهر تكمن في تلمس الطريق للاكتشاف، وليس الوقوف عاجزا ، أو تائها في متاهة ما انفكت تطور وسائل الصراع ـ والمتناقضات ـ ما بين الحدود…؟ إن ما تم اكتشافه من جرار، دمى، أواني، ونماذج خزفية مختلفة الوظائف، في حضارات العراق، لا تشكل إلا نسبة لكنوز أخرى مازالت بانتظار التنقيب، والاكتشاف. إلا أنها نسبة تفصح عن مدى بلورة حداثة ترجعنا إلى مهارته في منح الجمال أثرا عمليا في بنية (النموذج) الخزفي، بوصفه يمتلك قانون الديمومة…، ضمن قراءة لا تعزل حاضرها عن ذاكرتها، ولا عن استبصارها بما سيشكل استكمالا للسلسلة. فالأصل لا يكمن في (الفن) ـ مثل اللغة لا تفسر بقواعدها بل بصانعها أيضا ـ بل في الذي لم يتخل عن استحداث مناعة مقاومة لحقب الخمول، والوهن.ومع إن ما بعد الحداثة ـ وقد اندمجت طرقها بعالم تحكمه مراكز الشركات العابرة للقارات ـ غير معنية كثيرا بالإجابات التاريخية، أو المنطقية، إلا إنها ـ وقد أصبحت مظهرا عالميا شمل أكثر المناطق بدائية إلى جانب أكثرها تقدماـ معنية بما كان يصنعه الخزاف الأول: هل غاب اللا مرئي عن أكثر الأشكال صلة بالنفع، وهل غابت (الميتافيزيقا) عن مكونات العالم الافتراضي، رموزه، ومخفياته..؟فثمة قدر لا محدود ـ بنسب تحددها الرهافات والمهارات والتحديات ـ من المجهول الذي يجد سكنه في أكثر الأشكال تقليدية ـ وأعرافا، إلى أكثرها احتواء للمشفرات. ربما ليست هي (الميتافيزيقا) أو (العدم) أو (المجهول) ـ ما دمنا نعمل بأدوات قديمة لمعالجة مستحدثات آخذة بالعبور نحو مصيرها، واعني بها اللغة ـ ولكن هل باستطاعة (الجمالي) أو كل ما تنتجه الرهافة، والمنبهات الحسية، والحدوس، وما ينتجه الدماغ من عوالم افتراضية، أن تشكل (ميتافيزيقا) تتوخى أن تصبح علما، لمنح الفن أن يكون حرية بموازاة ضدها: الضرورة…، أم أن الفن كان ضرورة أنتجتها الحرية التي تتطلبها الحضارة خارج المفاهيم القائمة على العسر، والعنف، وهي تحتفل، أحيانا، باندثارها؟ إن هذا التشبث (العنيد)، بحد ذاته، يمتلك قدرات لا واعية، للسلسلة أو للدورة، وليس لحلقة أو حقبة أو فجوة فيها…، حيث الفن يذهب ابعد من وصفه بالسلعة، وابعد من مشروعه الوظيفي، وأعمق من انشغالاته الشكلانية أيضا…، حيث إن لم يستحدث تعديلات تواكب حضارة اقل عشوائية، عنفا، وانشغالا أحاديا بالربح، فان لغز الزوال سيبقى انشغالا، لا يهن، بل يجد منفذا له، شبيها بما تفضي إليه الثقوب السوداء، لا تتوارى داخل بنيتها إلى الأبد، كما قال ستيفن هوكينج، بل تنبعث في حياة لها ديناميتها، حتى بوجود حياة مغايرة لحياتنا، في مكان أخر من الكون.