يعتبر (ابن الانباري) من أكابر النحويين وأعلمهم بنحو الكوفيين خاصة، كما أنه معروف بخاصية الحفظ للنصوص بنحو تجاوز فيه المألوف وأصبح علما فيه.قال القالي عنه إنه:( يحفظ ثلاثمئة ألف بيت شاهدا في القرآن) وقيل عنه إنه: (يحفظ مئة وعشرين تفسيرا بأسانيدها) وحين قيل له: «قد أكثر الناس في حفظك فكم تحفظ؟ فقال: ثلاثة عشر صندوقا» وهي كناية عن الحفظ الكثير بحيث لو وضعت الكتب التي يحفظها في ثلاثة عشر صندوقا لملأت الصناديق كلها. وقيل عن كتابه (غريب الحديث): انه خمس وأربعون ألف ورقة أملاه من حفظه.! أقول: لئن امتاز (ابن الانباري) بكثرة محفوظاته، فانه كان في عصر كثر فيه الحفاظ وان لم يبلغوا مرتبته .أما في أيامنا الراهنة فإن الحفظ أصبح نادرا. حتى ان بعض خطباء المنبر الحسيني بدؤوا يقرؤون وهم على المنبر نصوصا شتى يقرؤونها على الناس من أوراق كتبوها وأعدوها للقراءة خلال الخطبة، وهذا ما لم يكن متعارفا عند خطباء الأمس جميعا.. وكان يقال للمتأدبين: اكتب أحسن ما تقرأ، وأحفظ أحسن ما تكتب، وتحدث بأحسن ما تحفظ، وهذه أيضا أصبحت في عداد النوادر..!!. «حكى ابو الحسن الدارقطني: انه حضر مجلس إملائه في يوم جمعة فَصحف اسما أورده في إسناد حديث، إما كان حبان فقال حيان. قال الدار قطني: فأعظمت أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته وهم، وهبت أن أوقفه على ذلك، فلما فزع من إملائه تقدمت اليه فذكرت له وهمه، وعرفته صواب القول فيه وانصرفت.. ثم حضرت الجمعة الثانية مجلسه فقال أبو بكر للمستملي: عرف جماعة الحاضرين أنا صحفنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية .ونبهنا ذلك الشاب على الصواب، وعرف ذلك الشاب أنا رجعنا الى الأصل فوجدناه كما قال» معجم الأدباء /ج18/ص308-309 أقول: لقد تلقى (ابن الانباري) مقولة (الدار قطني) التصحيحية بكل ترحاب، ولم يظهر عليه أي أثر للامتعاض.. كما أنه لم يصر على صحة قراءته.. وهذه هي السمة التي لا بد أن يتسم بها الباحثون في مختلف حقول العلم والمعرفة، انهم ليسوا معصومين من الخطأ.. وان عليهم أن يفتحوا قلوبهم وآذانهم لمن ينبههم على أخطائهم.. وهذه هي سمة العالم الموضوعي الحصيف. ثم انّ ابن الانباري لم يكتف بذلك، بل عمد الى الاعتراف بالخطأ في مجلسه العام الذي انعقد (في الجمعة الثانية) بعد ذلك المجلس. والمهم: انه أشاد بالشاب (الدار قطني) الذي أرشده الى الخطأ، ليرفع من شأنه بين أقرانه، وأعلن انه راجع الأصل وكان مطابقا لما قاله الدار قطني، وكل هذه الخطوات التي اتخذها (ابن الانباري) جديرة بالتقدير والاكبار: اعترافه بالخطأ، إشادته بمن دل عليه، رجوعه الى الأصل للمطابقة بينه وبين ما جاء على لسان الدار قطني. والدرس العملي المستفاد من هذه القصة واضح جلي: انك لا ترتقي الى معارج العلم ما لم تكن حريصا على الوصول الى الحقيقة. وقد يرشدك إليها تلميذ من تلاميذك، وإياك إياك أن تنظر إليه بعين الغضب أو الازدراء.. والسؤال الآن: كم هم أولئك الذين يعترفون بالخطأ؟ وكم هم أولئك الذين يصححون أخطاءهم؟