اذا كان شعار الطغاة والظلمة على مر التأريخ هو “فرق تسد”، فعلى الشعوب المظلومة والمغلوبة على أمرها، المنهوبة ثرواتها ،المسروقة خيراتها، الضائعة أجيالها ، المهضومة حقوقها ،المسلوبة ارادتها ،المدنسة بلادها ،المفككة مجتمعاتها ،المستحمرة مؤسساتها ،المهربة آثارها، المهتوكة حرماتها ،أن تطلق شعارا مضادا مضمونه”اذا اتحد الشعب ، تحرر من الاستبداد وساد “، او ” اتحد يا شعب تَسُد ..تفرق تُستَعبد ” .
لقد فصل القرآن الكريم تداعيات “فرق تسد “هذه على الشعوب المظلومة والمكلومة والمغرر بها في ظل أنظمة فاسدة ، وبكنف قوانين ومنظومات أفسد ،بما جاء مفصلا عن مآلات تلكم الفرقة وتداعياتها في القصص القرآني، ولايخفى على ذي لب بأن من غايات القصص القرآني هي سوق العبر والعظات للاعتبار والمواساة والتأسي والتفكر والتدبر والاستنتاج والاستشراف والاستقراء ” فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” ، الا ان الكثيرمنا ومع شديد الاسف يهتم بتوقيتات الختمة ومدتها وأجرها ولربما سُمعتها وشهرتها بين أقرانه ومن حوله كذلك، وذلك أكثر من اهتمامه بغاية الحفظ والتلاوة والفهم والتدبر، اشد من اهتمامه بالاحكام القرآنية،بالمثل القرأني ، بالمعاني القرآنية ، بالعلوم القرآنية ، بالعظات القرآنية ، مع ان بركاتها وحلاوتها والعبر المستنبطة منها كثيرة وما ابلغها عظات ، وما اروعها من عبر، ولو أنك سألت بعض من اعتادوا الختمة طمعا بالاجر والثواب فقط ، عن الناسخ والمنسوخ ، المحكم والمتشابه ، المكي والمدني ، اسباب النزول ، المترادفات ،عن معاني واحكام السور والآيات ،عن العبر والعظات المستنبطة من الأمثال والقصص في السور والآيات ، لوجدته في حيص بيص ، ولألفيته في حيرة من أمره تماما يتلفت يمنة ويسرة لعله يجد من سؤالك المحرج مخرجا !
ولطالما سألت نفسي” لماذا إبتلى الله سبحانه وتعالى رسله وانبياءه ابتلاءات ليس بمقدور البشر تحملها ،الجواب المعتاد الذي كان يتناهى الى سمعي ويصل الى علمي من خلال ما أسمع ، واقرأ ، هو ان الله تعالى انما يريد ليطهرهم ويزكيهم ويمحص مافي قلوبهم ويثيبهم على صبرهم واحتسابهم الأجر العظيم لينالوا أرفع الدرجات وأعلى المقامات في الدنيا والاخرة على سواء، وبمعنى ابلغ وكما جاء عن بعض السلف الصالح” ليستوجبوا كمال الكرامات ويبلغوا اجلًّ الغايات وأكمل النهايات” ، الا انني وبرغم اقتناعي بتلكم الأجوبة ، فإن لفيفا من التساؤلات بشأنها ظلت قائمة وهي تمعن النظر وتقلب الطرف وتتوق لمزيد من الفهم لطبيعة تلكم الابتلاءات وحكمتها ماخلا ماقيل فيها سابقا ما يستوجب من المهتمين ويستلزم من الباحثين بذل المزيد من الجهود واعمال الذهن وكتابة العديد من البحوث الرصينة “بعيدا عن بحوث القص واللصق والترصيص، والتي عادة ما تخرج منها كما ولجت اليها = هب بياض لأن كل ما فيها انما هو اعادة وتدوير لما سبق طرحه مرارا وتكرارا ومن غير جديد يؤثر، ولاجهد يشكر ، ولا تحليل مضمون يذكر، أو كما قال البغادة – عيد واصقل بالك تنسى – !” وذلك لتثويرها واضاءتها واسقاطها على واقع الشعوب والامم على مر العصور ، ولعل حقب الفتن والابتلاءات والمحن تبرز فيها الكثير من تلكم المعاني السامية – زمكانيا – بصورة اكثر وضوحا واقل تشويشا ، ففي ظل حاكم مستبد جهول كـ ” النمرود ” مثلا ، تبرز معاناة الداعية ملخصة بحيثيات وتفاصيل قصة ” ابراهيم عليه السلام ” وعلى الداعية في ظل النمروديين التأمل فيها مليا ، انها معاناة ولاشك تختلف عن معاناة داعية او مصلح آخر يعيش في كنف حاكم مستبد عليم كـ “الفرعون “وهذه تبرز فيها معاناة الداعية آنذاك مع الفرعونيين ملخصة بقصة موسى عليه السلام ، وكلاهما تختلف عن معاناة داعية أو مصلح ثالت يعيش في مجتمع مستبد وجاهل على مستوى الحكام والمحكومين حيث هذه العصا من تلك العصية ، ولا تلد الحية الا الحية ، أو كما قال الشاعر :
مات في البريـة كلـبٌ ..فاستـرحنا من عـواه
خلف الملعـون جـرواً …فـاق في النبـح أباه
فأشباه هذه المجتمعات ونظائرها تعاني مما يمكننا تسميته بـ ” الاستبداد المجتمعي” او استبداد الحاكم والمحكوم على سواء بما يحاكي ” الدستوبيا ” والمجتمعات غير الفاضلة ، والمدن الضالة ، وهي على النقيض من ” اليوتوبيا ” والتي تمثل الفضيلة الطوباوية المثالية الخيالية الحالمة وهذه الاخيرة هي نوع من انواع أو لنقل شكل من اشكال متلازمة ” الميتومونيا ” والتي تستخدم عادة للتخدير الذاتي والمجتمعي الممهد للفوضى العارمة لأن اصل الفضيلة هي ان تكون واقعية علمية عملية ميدانية مثابرة وليست ” دون كيشوتية ” حالمة تصارع طواحين هواء وتقارع اشباحا لاوجود لهم على ارض الواقع ،ولا ان تكون من مخلفات متلازمة ” الميتومونيا “ التي يعيش خلالها المرء وهو يحلم طوال حياته بكنز يعثر عليه ، بحقيبة نقود ، في لامكان ولا زمان لتغير له حياته بأكملها حتى انه ليستغرق في حلمه ذاك مابعد العثور على الحقيبة ، او الكنز المتخيل متوعدا كل خصومه بالثأر لكرامته المهدورة واسترداد كامل الحقوق المسلوبة واعادة اعمار المدمر ، واصلاح المخرب ، فضلا عن نيل المطالب ” ومانيل المطالب بالتمني ، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا، كما قال شوقي ” ولطالما وقفت حائرا امام اناس يثرثرون بمشاريع مستقبلية – وهمية وحالمة – للتغيير والاصلاح ، ماضيهم عامر في واقع خرب، ” فيما عقل احدهم الباطن ، ولا وعيه يريا عينيه مالم تريا ، ويؤملانه بغد مشرق سيعقب العثور على الكنز المتوهم الذي يعتقد أحدهم جازما بأنه في الطريق اليه لامحالة ، ان عاجلا أو اجلا ، بينما هو جالس يُنَظر ويفكر ويؤطر ويشرب الشاي والقهوة وسط اتباعه ومريديه في حالة استرخاء تام ، يجلس متكأ بين اعضاء حزبه أو جماعته من دون ان يحرك ولا ان يدفعهم لتحريك ساكن على ارض الواقع بعيدا عن عالم الاوهام ” ، المجتمعات والمدن الضالة التي تأبى الاصلاح بعد ان ادمنت الضلال والضياع تلخصها لنا قصة النبي نوح عليه السلام مع قومه ، والنبي لوط عليه السلام ، والنبي صالح عليه السلام ، والنبي شعيب ، وبقية الرسل والانبياء ممن لم تؤمن اقوامهم بدعواتهم ولا برسالاتهم لتنتهي بهلاك تلكم المجتمعات وغرقها وتدميرها وقلب عاليها سافلها .
اما في ظل حكم او لنقل بلاط تتلاعب به الاهواء والشهوات والغرائز والترف والبذخ والنساء فهنا ” تبرز معاناة الداعية التي لخصتها لنا قصة يوسف عليه السلام انطلاقا من الحُلم الشخصي بغد افضل ، الى حسد المحيط حتى على الاحلام ، الى غدرهم بأقرب المقربين ، مرورا بسوق الاكاذيب والاساطير والخرافات تلو الاخرى لتسويق هذا الظلم وذلكم الغدر وما يترتب عليه من سوق اكاذيب جديدة لتبرير القديمة منها وهكذا دواليك ، الى الجب ، الى النفي ، الى الاستعباد ، الى فتن المغريات من خلال العيش او التعامل مع اناس قد انستهم الدنيا ومتاعها وزخرفها الكثير من الاخلاقيات والالتزامات ، وافقدتهم الكثير من السلوكيات والتوازنات ، الى السجن ” ظلما او معارضة ،لا بجنحة ولا بجناية مخلة بالشرف ، وانما بتهم كيدية ساقها احدهم اثر غضبه على المجني عليه فألقاه خلف القضبان مظلوما ، والكل يسأل ترى اين القضاء العادل ، اين القانون الفاعل ؟!” وصولا الى القصر” ليس وصول منافع واطماع ، وانما وصول قوامه الامانة والحفظ والعلم والصلاح والتجارب والكفاءة والدراية والصدق والعمل والصبر والمثابرة والجد والتمكين ، وصول غايته الاصلاح والعدل والتغيير” فعندما تتناسل الوسائل النبيلة مع الغايات الفاضلة فستنجب لنا منظومة قيمية وحكومات انسانية عادلة وعلى مستوى عال من الرقي والتنظيم وحفظ النظام القائم على النزاهة والاخلاص والكفاءة والعدالة الاجتماعية ، وليس على الاستبداد !
بعض هذه القصص المباركة والتي سيقت للعبرة والعظة ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ )) قد لخصت لنا تبعات وآفات ومخلفات ونفايات ما يعرف بـ” “divide et impera “او سياسة ” فرق تسد ” التي يتبعها الطغاة والمستبدون والمستدمرون عبر التأريخ وجماعها (( انَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )) ، فبث الفرقة والخلاف والتفريق بين ابناء المجتمع الواحد غايته ضمان السيطرة طويلة الامد على الشعوب المقهورة حتى ان الشعب ليتحول بفعل هذه السياسة الماكرة الهوجاء الى مجاميع من البخلاء والدخلاء والمسرفين والهلوعين والمتشككين حتى بأقرب المقربين ، يحولها الى شراذم من الطائعين والمدجنين والمستأنسين ، الى شذاذ آفاق من المخبرين السريين ، والجلادين الساديين ، والتجار المحتكرين ، ورجال الاعمال الجشعين، والسياسيين الانتهازيين ، و المعارضين المذبذبين المضطربين ، الى جحافل من الاعلاميين المزورين والكتاب والادباء المغفلين والعلماء المستغفلين والشعراء الهائمين والمنظرين الحالمين ، الى مجموعات من اليائسين المتهورين أوالمحبطين أو المنتحرين ، الى كتائب من كهنة ووعاظ سلاطين مُخَدِرين َ ومُخدّرين ، حتى انك لترى الكل يعمل على الفت في عضد الآخر والتشيكك بنواياه والتحريض عليه والسخرية من رموزه وادبياته ومقدساته ، والتهكم على ماضيه وحاضره ومستقبله ، حيث الكل يهاجم الكل من دون رحمة ولاشفقة ، مقابل مدح الصنم والثناء عليه رغبا أو رهبا ، فيما يتنعم الطاغية المستبد في قصوره بين خدمه وحشمه وحاشيته متعكزا على هذه الخلافات مستثمرا اياها مسعرا لنيرانها كلما خمدت ، او كاد أن يخبو اوارها ، بغية سرقة المزيد من مقدرات الشعب الممزق ونهب المزيد من خيرات البلد المفكك ،ولن يزيحه عن هذا النعيم الزائل الذي يعيش فيه سوى ” اتحاد الشعب وليس اختلافه ، تآلف فئات المجتمع وليس تناحرها ، تعاضد ابناء البلد الواحد فيما بينهم لا تباعدهم ، تقاربهم لا تنافرهم ” وما اثارة موضوعة هدم أو التجاوز على مسجد ابي حنيفة النعمان التي اطلقتها بعض الجهات التي تعتاش على الفتن والمحن والفوضى سوى خطوة لئيمة جدا في طريق – فرق تسد – هذه للفوز بالمناصب مجددا ولأربع عجاف مقبلة على اسس طائفية بما يضمن بقاء المحاصصة على ماهي عليه لأنهم يعتاشون على هذه المحاصصة – كلهم ولا استثني منهم احدا ومن جميع القوميات والطوائف والمكونات – لأن كل المنافع والمناصب انما هي قائمة على – فرق تسد – التي أطلقوا عليها في محاولة منهم لتجميل وجهها الكالح مصطلح ” المحاصصة ” وهي قائمة على الفئويات والقبليات والعصبيات والطائفيات والتناحرات والتجاذبات والتسقطيات المبنية بدورها على الفرقة لا على الاتحاد .
وبناء عليه فلن تجد بين المتحاصصين مصلحا بحق واقعا وليس زيفا ومخادعة امام وسائل الاعلام فحسب ، ولن تجد بينهم داعية بحق الى وحدة الصف ونبذ الخلافات وسط صفوف من الطامحين الى مزيد من السرقات والاختلاسات والاثراء الفاحش غير المشروع لأن وحدتكم تزلزل عروشهم وتهدد مصادر ثرواتهم وتفقدهم صوابهم ، وتخلخل توازنهم ، وتزيحهم عن سدة المسؤولية ، وتضعف احزابهم كذلك تحزبهم ، وبالتالي فهؤلاء لن يجدوا السير لتوحيد صفوفكم ، ولا تقريب وجهات النظر بينكم ، وانما سيتحركون في الاتجاه المعاكس لضمان تفرقكم وترسيخ تشتتكم ووتأصيل اختلافكم !
اتحدوا يرحمكم الله لأن المستفيد الوحيد من خلافاتكم تلك إنما هم سراقكم وفراعنتكم وطغاتكم ايا كان توجههم الديني والقومي والطائفي والسياسي حتى اولئك الذين يزعمون بأنهم يمثلونكم ويدافعون عن حقوقكم امام الكاميرات بينما يعملون على النقيض مما يزعمون من خلفها، بعضهم يفعل ذلك بالتنسيق مع من يسبونهم ويلعنونهم في العلن ، ويداهنونهم في السر ، واذكركم بقوله تعالى ” وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ “، والفت عنايتكم الى وصية نبيكم الاكرم ﷺ “خيار أئمتكم الذين تحبُّونهم ويحبُّونكم، ويصلُّون عليكم، وتصلُّون عليهم، وشرار أئمتكم : الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم ” .
كفاكم تفرقا واختلافا وتناحرا وتجاذبا ، وشدوا السير الى بعضكم بعضا لتتصالحوا وتتحاوروا وتتواءموا لاسيما في هذه الظروف العصيبة وكلكم يعاني من البلاء والوباء والغلاء وشماتة الاعداء ،اتحدوا لأن الشعب اذا اتحد ، تحرر من الاستبداد والفساد وساد ، او ” اتحد يا شعب تَسُد ..تفرق تُستَعبد ” . اودعناكم اغاتي