أمريكا تفاوض

أمريكا تفاوض
آخر تحديث:

 عبد الرازق أحمد الشاعر

في محيطها الإقليمي المتجمد، تقف قطر كوشم سياسي بارز، مادة أذرعها العنكبوتية فوق الخرائط، فتضم خارطة، وتبعد أخرى، وتنصب رئيسا، وتسقط آخر. وحين يعجز حواة العالم عن المضي قدما في رسم خرائط الطرق، تتطوع قطر، فتمد أصابعها الطرية لتضم الأصابع المتشنجة، وتضع مناديل اتفاق فوق الأسيجة الباردة، وتحرك شفاهها الغليظة بتمتمات فلكلورية، فتخرج من الحدود المتقيحة حماما زاجلا، وباقة ورد، وقنينة عطر. وفي قطر، يجتمع الشتيتان اللذان ظنا كل الظن أن لا تلاقيا، فيتبادلان التحية والانحناءة والأسرى. 

في قطر، يلتقي قادة البنتاجون وزعماء طالبان خارج حدود التاريخ والبارود والقصف، ليتبادلا الرهائن، وينصرفوا. وبعد خمسة أعوام من القنوط، تنسج قطر خيوط رحمتها لتنتشل الرقيب بو برجدال من مرارة الأسر الأفغاني مقابل تحرير خمسة من قادة طالبان كان التاريخ قد نسيهم في معتقل جوانتانامو سيء السمعة. 

كان المسئولون الأمريكيون قد مهدوا للصفقة يوم الأحد الفائت بتصريحات مغرضة تحدثوا فيها عن حراجة حالة برجدال الصحية، مدعين أن بقاءه على قيد الأسر يحتاج إلى تدخل سريع. لكن أحدا من رجال الكونجرس لم يفطن إلى ما يدور في أروقة قيادتهم المخابراتية. بيد أن الجمهوريين الذين هالتهم المفاجأة لم يستطيعوا لجم ألسنتهم كالمعتاد، وراحوا يحذرون من تحول الجنود الأمريكيين إلى فرائس لأصحاب الثارات في شتى الخرائط، وما أكثرهم !

وردا على اتهام القيادة الأمريكية بالتهور وتجاوز البروتوكولات التي تقضي بالرجوع إلى الكونجرس قبل إصدار أي قرار يخص أصحاب جوانتانامو بشهر على الأقل، بررت رايس مستشارة الرئيس الأمريكي فعلة إدارتها بالقول: “كان الأمر حرجا ويحتاج إلى تصرف سريع، مما حرم علينا رفاهية الانتظار. ماذا لو قضى الرجل، هل كنا سنسلم من ألسنة الجميع؟” 

على الحدود الأفغانية الباكستانية، حلق سرب من طائرات الهلكوبتر فوق رؤوس عشرات المدججين بالآليات في انتظار ثمانية عشر أفغانيا ورقيب أمريكي. ووسط موكبه الغفير، عاد برجدال ليخضب بدموعه الحارة لحية أبيه الذي تعلم لغة الباشتو ليخاطب الخاطفين بلكنة أبوية ركيكة متوسلا إليهم أن يحسنوا معاملة رقيبه المختطف.

لكن صمت الرقيب ورفضه الإدلاء بأي أحاديث لوسائل الإعلام أعاد إلى الذاكرة الأمريكية ما أوردته مجلة رولنج ستون عام 2012 في إحدى مقالاتها حول الرقيب المختطف. قيل يومها أن برجدال يشك في عدالة الدور الأمريكي في أفغانستان، ويتمنى الفرار من معسكرات القصف، وأنه يشعر بالخجل لأنه أمريكي. لكن وزير الدفاع الأمريكي هاجل رفض التعليق على تلك الأقاويل حين عرج على قاعدة باجرام لتقديم التحية لمن قاموا بتحرير الرهينة الأمريكية. 

لكن غموض إجراءات المقايضة لم يمنع الرئيس الأمريكي من الوقوف إلى جوار والدي الرقيب في حديقة روز يوم السبت الفائت ليعلن في شموخ أن “أمريكا لا يمكن أن تترك من يرتدي زيها خلف القضبان.” صحيح أن الرجل لم يتحدث عن السر وراء تسعيرة الرقيب المغالى فيها بعدما تبين أن من بين المفرج عنهم وزير أسبق في حكومة طالبان الأفغانية. لكن يبدو أن الصفقة المبرمة لن تنتهي عند حدود برجدال لا سيما بعدما أعلنت الإدارة الأمريكية عن نيتها سحب من تبقى من جنودها في الأراضي الأفغانية بحلول عام 2016، في ظل غياب ذراع قوية يمكن أن تتكئ عليها الحكومة الأمريكية حال انسحابها. 

تمخض جبل المفاوضات إذن، فولد رقيبا محتجزا منذ سنوات، لكن الشواهد تدل على أن الصفقات المبررة هي الحل الأمثل لإخراج أصحاب البيادات الثقيلة من ورطتهم التاريخية في بلادنا الموحلة، وأنهم سيضطرون بعد فشلهم الذريع في قيادة العالم نحو أي شاطئ آمن إلى انسحاب هائل من التاريخ والجغرافيا وإلى الأبد. وستظل قطر تمارس دورها الرائد في تقييم الرؤوس وعقد الصفقات حتى تعود السفن الراسية فوق حدودنا المنتهبة إلى سواحلها آمنة. 

بقي أن  المحررين من معتقل جوانتانامو لم يحظوا بغطاء جوي كالذي حظي به الرقيب المحرر، إذ لم تتضمن الصفقة المشبوهة حقوقا مماثلة للمحررين على الجانبين، وسيضطر الخارجون من ظلمات جوانتانامو إلى البقاء فوق الأراضي القطرية يتنسمون عبير الوساطة عاما على الأقل قبل أن يعودوا إلى أحضان ذويهم ليشكلوا أعمدة بارزة في هيكل حكومة اتفاق يباركها البنتاجون وتدعمها قطر.

 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *