المالكي يقول لكم : ” ختامها ” بوكسات ” بقلم علي حسين

آخر تحديث:

هناك نوع من التصريحات ، تثير الاستغراب بقدر ما تثير الضحك، وغالباً ما تأتي هذه الكوميديا بأخبار من نوعية “سري وشخصي ” لا ينبغي للناس أن تعرفها، وفي كثير من الأحيان يكتشف المستمع أن المصدر الوحيد لهذه الأسرار هو الخيال الجامح لصاحبها .. في هذا الإطار يمكن التعامل مع الحوار الذي أجرته قناة العراقية مع رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي ، الذي أخبرنا فيه أنه ” لا يمانع من تلبية دعوة البرلمان إلى تضييفه ، محذرًا من أن ما بحوزته من ملفات خطيرة سيقلب الدنيا في العراق،” والطريف أن اللقاء التلفزيوني ينتهي بجملة سنظل نقلبها ذات اليمين وذات الشمال دون أن نحل لغزها،لأنها- أي الجملة- تقول “إن ما يمنع رئيس الوزراء من كشف هذه الملفات” هو رد الفعل الخطير، الذي سيصيب العراق والعراقيين، مفضلا التريث حقنًا للدماء، وخوفا من اندلاع مشاكل و “بوكسات” داخل البرلمان وأن من بين المتورّطين نواباً من التحالف الوطني وبقية الكتل، من خلال استخدام نفوذهم وبطاقات تنقل عناصر حماياتهم”.

تسريبات ومتاهات ستظل تلاحق المواطن المسكين من الآن فصاعدا باعتبارها فصلا جديدا من كوميديا أوسع وأشمل اسمها “الملفات المخبأة” التي بدأت بفزاعة أطلقها قادة أمنيون صاحبتهم فيها إيقاعات على مارش عسكري عزفه عدد من المقربين أقسموا جميعهم بأغلظ الأيمان على أن المنطقة الخضراء كادت تتعرض لهجوم كاسح لولا لطف الله بعباده الصالحين , في كل لقاء تلفزيوني يصر السيد المالكي على أن يمارس قصفا متواصلا على عقول الأبرياء من الناس، بكل أنواع أسلحة حرف الحقائق، كي نستغرق معه في الحديث الصاخب عن المؤامرات التي تحاك في الظلام وننسى أن واجب رئيس مجلس الوزراء هو تكريس الجهود للبناء والتنمية وتطوير قدرات العراقيين وتأسيس دولة المواطنة، فيما نرى يوما بعد آخر أنه مصرّ على عدم تحريك أي ملف ما لم يتم القضاء على كل المتآمرين الذين دخلوا إلى البرلمان سهواً ودون موافقته الشخصية .

اعتقد العراقيون واهمين أن الخطر الأكبر الذي يواجه بلادهم هو الفساد المستشري في كل مؤسسات الدولة، والمحسوبية والانتهازية السياسية وغياب الكفاءات وسرقة المال العام، لكن المالكي فاجأنا في حواره التلفزيوني أن أخطر ما يواجه الناس هو حضوره جلسة البرلمان ، وهي نكتة ربما تكون ثقيلة على سمع العراقي المسكين الذي تيقن بالدليل القاطع أن البرلمان لا يزال سجين لأمزجة مسؤولين يخلطون السياسة بالكوميديا منذ سنوات.

ولأن المالكي مهتم براحة بال المواطن وخوفه عليه من الزلزال فإنه لا يريد له الدخول في تفاصيل هذه “الملفات” ولا معرفة أسماء النواب “الإرهابيين” ولا داعي لمعرفة الجرائم التي ارتكبت، كما سعى من قبل ألاّ يشغل تفكير المواطن المسكين بمهلة المئة يوم التي أعطاها المالكي لنفسه لتحسين أوضاع الخدمات .. للأسف مثل هذه الأخبار تدغدغ مشاعر المخدوعين، لكنها في المقابل وسيلة لابتزاز قطاع كبير من العراقيين، بطريقة الخوف الدائم من المجهول، حين يصر البعض على اتهام الناس بأن أمنهم في غرفة الإنعاش ولن يشفى أبداً.

هذه حقائق وليست رجما ًبالغيب أو ادعاء معرفة أو خبرة، لكنه الواقع يؤكد أن رئيس مجلس الوزراء يسعى لاستخدام “الملفات” كسلاح في معركته السياسية مع خصومه ، فهو يلاعب الجميع بمن فيهم شركاؤه في التحالف الوطني بالأوراق، وتسريب الأخبار، لابتزاز الخصوم وأيضا لاستهلاك المواطن في حروب فارغة، وينسى المالكي أن المشكلة ليست في “الملفات” التي يخبئها في مكان مجهول، ولا في حقيقة هذه “الملفات”، لكنها في إصراره والمقربين منه على أن يقهروا الجميع.

والغريب في اللقاء التلفزيوني المذكور، اننا انتبهنا للمالكي وهو يكرر كلمة “أنا” وكأنه يريد أن يقول: أنا موجود إذن أنتم بخير.. وليؤكد لمستمعيه أن كلامه وحده له قيمة، وهذا ما يسمونه في فن التمثيل اندماجا مفرطا يجعل المتفرج لا يصدق أن الاحداث تدور من على شاشة التلفزيون , يجب أن نأخذ دائماً في الاعتبار الفارق بين الأمم التي نشأت على ثقافة الحوار، وتلك التي تصر على أن الشارع مجرد ترديد هتافات “بالروح بالدم”، الفارق بين الحكومات التي تحترم فيها الديمقراطية وبين حكومة “الملفات”، مثل الفارق بين مجتمع حر، منتج، يحرص فيه المسؤول على تحقيق العدالة الاجتماعية، وآخر لا يملك شيئاً سوى اللقاءات التلفزيونية وإشاعة قيم البطالة والخراب .

دائما أعود إلى العجوز مانديلا الذي لم يخرج في لقاء تلفزيوني ليتحدث عن الظلم الذي لحق به، بقدر ما نراه في كل إطلالة باسماً يشيع من حوله روح التسامح والحب , تزدهر الأمم بقادة يصرون على إشاعة روح التسامح والأمل والعدالة الاجتماعية وبسط سلطة القانون، بينما نغرق نحن مع ساسة “الفضائيات” الذين لم يتوقفوا لحظة واحدة عن بث الخوف والفزع في نفوس الناس وإشاعة رياضة “البوكسات” لو أن أحداً تجرّأ وطالب بتداول سلمي للمسؤوليات والسلطة ومحاسبة المفسدين.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *