المسؤول والنائب العراقي وخيانة الأمانة وضرورة تشديد العقوبة

المسؤول والنائب العراقي وخيانة الأمانة وضرورة تشديد العقوبة
آخر تحديث:

 

  عبدالقادر محمد القيسي 

في النص القانوني، وفي العرف الاجتماعي والاعتباري، تأخذ الأمانة حيزها الكبير، بوصفها الوعاء الأخلاقي الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال إخضاعه لحسابات أخرى، مهما كانت الذرائع والمسوغات، ومن هذا المنطلق تقدمت الأمانة في التصرف على العدل، إذ لا يمكن للعدل أن يسود إذا لم يكن هناك موقف أمين يدعم هذا التصرف ويدفعه إلى الواجهة السلوكية سواء كان الموقف إجراءا قانونيا يهم قضية مهمة أم تصرفا إنسانيا يوميا معتادا.

وبهذا فان قوله تعالى : (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) فالآية تشير الى انه لا عدل يتحقق بدون موقف أمين على إرسائه ومواصلته وهذا لابد ان يقود بالنتيجة النهائية إلى أعمام الأمانة بكل مفاصلها المطلوبة التي يتطلبها موقف ما، ومن هذا المنطلق نؤكد أمانة المواطن في واجبه القيادي العام، ابتداء من قيادة نفسه إلى قيادة الآخرين ضمن السلم الإداري، والاجتماعي والجهدي العام، فحين نتحدث عن براءة الذمة والثوب الأبيض في تصرف المسئول، والعفة السلوكية، والزهد في الملاذ الشخصية، والدعوة إلى الجرأة في قول الحق والإصرار المبدئي على المواقف التي تخدم الوطن والشعب وتصون المبادئ، وباعتبار الأمانة بوصفها المدخل الوحيد لكل هذه التوجهات السلوكية الحياتية، إذ ماذا ينفع أن يتصرف المواطن بقضية ما أن لم يكن موقفه أمينا ؟ وكيف يضمن المسؤول أن يكون موقفه موقفا صحيحا في المسئولية وهو لا يقيم تصرفه على أساس العدل والإنصاف والتصرف الصحيح.

وتأسيسا على ما تقدم فان جريمة خيانة الأمانة تختلف اختلافا جوهريا عن منظور جريمة السرقة في ان ركن السرقة هو اختلاس المال ونقله من مكان وجوده بقصد الاستيلاء عليه والتصرف فيه تصرف المالك، وبذلك تكون يد السارق مطلقة بالهدف في النية ولحظة ارتكاب (الجريمة) بينما خيانة الأمانة تأخذ هذا البعد إذا كان الحال بالنسبة للمال، وتأخذ بعد الخرق الفاضح لما اؤتمن عليه هذا الشخص مسبقا، ومن هنا تكون جريمة خيانة الأمانة في كل المقاييس القانونية والأخلاقية والاجتماعية جريمة ببعدين، بعد خرق الأمانة، وبعد السرقة وبذلك فان صب هذه الجريمة في جو جزائي بحت ينبغي النظر إليه ابعد من هذا الشرط الجزائي لكون جريمة خيانة الأمانة تعد من الجرائم الكبرى، ولنذهب ابعد في توضيح هذه الفكرة كم هو خطير مثلا لو ان الشرطي المؤتمن على تطبيق القانون وحماية امن المجتمع خان أمانة هذا التطبيق ؟ وماذا ينتج فعلا عن قاض يخون أمانة القانون المكلف بإشاعته ضمن الصورة العادلة او نائب يخون القسم الذي اداه لناخبيه وأول خيانة هو تحوله لمسؤول تنفيذي بعد ان انتخبه ناخبيه كممثل (كعضو برلمان) لهم في السلطة التشريعية ليوصل معانتهم لأروقة البرلمان لكنه تحول تحت ضغط المكاسب والسلطة والنفوذ الى وزير وترك ناخبيه، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل يمكن أن تكون الأمانة سلوكا مكتسبا بالتجربة؟ وهل يصح التنويه بالعودة إلى الأمانة والسلوك القويم؟

ان مسالة تامين سلوك للإفراد قائم على الأمانة يخضع أول ما يخضع إلى تقديم صورة الإنسان المسئول الأمين في تصرفه ابتداء من إفراد الأسرة الواحدة مرورا بالمدرسة، فالمؤسسة التي يتواجد فيها الفرد، ومما فيه.

 أن أعلى أنواع إقامة صروح الأمانة في التصرف هو تقديم النموذج الأمين في المسؤولية التي تدير شريحة معينة من الناس.

عليه يجب التأكيد على هذا النوع من الضبط الاجتماعي والقانوني في صورة المسئول الأمين على مسؤولية، وإذا قيل إن أعظم أنواع الأمانة هو الأمانة على المال العام، أي المال الخاص بالدولة والمجتمع، فان من يسرق من هذا المال كمن يسرق ماله، أو يسرق مال وحاجات أسرته، ولهذا نجد ان عقوبة الردع لمحاصرة خيانة أمانة المسؤولية تأخذ كل هذا الحيز من الاهتمام من الدولة في تكثيف العقوبة كلما تقدم الفرد في المسؤولية العامة ، وبهذا أيضا فان القضاء والمحاكم والمسئولين عن تطبيق القوانين يقدمون النموذج الأعلى والأكثر تأثيرا في تقديم صور مشرقة للأمانة في المسؤولية .

ان الديمومة التي يريدها الشعب العراقي للعدل يريدها من مواقع المعايشة الوجدانية، وضمن اطار الواجب الاخلاقي والقانوني والاعتباري، وبهذا لا يكفي ان يكون القاضي الذي يحكم في قضية ما عادلا اذا لم يكن اطراف هذه القضية قد امنوا المناخ العدلي الذي اصدر فيه القاضي قراره فيها، وعلى هذا الأساس إن أية قضية عادلة تكتسب روحيتها القوية الراسخة من اسهام اكثر من طرف واحد في تجسيد المناخ العدلي فيها، ابتداء من رجل الشرطة المسئول عن الظرف الاجرائي التحقيقي وتطبيق الاجراءات الامنية المطلوبة وصولا الى الحلقات الاخرى، وعلى هذا الاساس ايضا ينبغي ان يشتغل الاخرون على تامين الحقيقة العدلية اعلاميا واجتماعيا واقتصاديا ليكتسب الشرط العدلي ابعاده التامة .

وهناك شرط اخر للعدل في صورته التطبيقية الاخرى، يتعلق بعدم التوجس من النتائج القوية التي يحدثها، لان هناك من توجس من ممارسة العدل تحت ضغط ان هذا الموقف يجلب له المشاكل او يضعه في إطار غير قادر على مواجهتها ودرء مخاطرها.

وتذكيرا، ان القضاء على الفساد بكافة اشكاله يحتاج الى رجال وقورين عند الشدائد صبورين في تحملهم للمخاطر خصوصا ان، تقرير لمنظمة النزاهة المالية العالمية، اكد على تنامي تدفقات الأموال “القذرة” في العراق، فقد زادت تحويلات الأموال القذرة إلى خارج العراق بشكل حاد في 2010 إلى ما يزيد قليلا على 22 مليار دولار من 18 مليار دولار في 2009 ونحو 20 مليارا في 2008 وأربعة مليارات في 2007، وفي الأعوام 2013 و2014 فاقت كل التقديرات لضخامتها.

ان الركون الى التوجس والخوف من احقاق العدل، يفقد صاحب القرار بشخصيته الانسانية، بل يفقده اهم شروط وجوده: الشرف، وهذا بحد ذاته ما يجب ان يشير اليه قادة السلطة القضائية والتنفيذية والتشريعية في اطلالة فكرية عدلية عالية القيمة، وان يؤكدوا، انه لا خوف على الانسان من ان يفقد اخرين نتيجة موقفه العادل، لأنه بذلك يكسب رضا الله ورضا النفس وفي هذا قيمة اعتبارية واخلاقية عظيمة جدا، والتاريخ العربي يزخر بالقصص الجميلة الغنية بمدلولاتها العادلة لقضاة عرب ومسلمين قالوا كلمتهم العادلة ونطقوا بأحكامهم فأسسوا بذلك هذا الارث العظيم، وعلينا ان نشير هنا الى نقطة مهمة وهي ان الربط بين العدل والكسب المادي ينبغي ان لا يخل بشروط هذا العدل، مهما كانت هذه النتائج ضد هذا الكسب اذا كان بالحرام، وهذا ما يفسر بحد ذاته المبدئية العالية التي يجب ان تعتمدها الدولة في التعامل مع قضايا قانونية وعدلية احد اسبابها الهامش الاقتصادي واندفاع الافراد للتملك على حساب الكسب الحلال.

وتحضرني هنا حادثة ذكرتها صحيفة الوول ستريت جورنال الأمريكية في تقرير لها أن “المدير التنفيذي السابق لمصانع شركة انوسبيك البريطانية للصناعات الكيماوية قد اعترف بذنبه في جريمتي رشوة لمسؤولين عراقيين”، ومدير بنك دولي في سويسرا، قام بتقديم استقالته لأنه وجد ان زوجته صاحبة اكبر شركة تجارية قد استفادت من موقعه في الاستفادة من عدة تسهيلات كان يقدمها البنك لزبائنه؛؛؛؛؛

وأقول هل لدينا هكذا مسؤولين يشعرون بالذنب ويقدسوا المهنية والنزاهة ويتنحوا عن مناصبهم ويعترفوا بخطئهم حفاظا على حقوق الشعب العراقي؟

وخير مثال نضربه على خيانة الأمانة للمسؤولين العرقيين وتهاونهم وتفضيلهم مكاسبهم حتى لو كانت على حساب أرواح المواطنين، هو جهاز كشف المتفجرات حيث اشارت القوات الأميركية إلى أن هذا الجهاز غير فعال”. ووزارة النفط والعلوم والتكنولوجيا أيضا أشارت إلى أن جهاز الكشف ذاته غير صالح للكشف، ومسؤولين عراقيين (عقيل الطريحي باقر الزبيدي مثلا) أكدوا انه غير فعال والمحاكم البريطانية أصدرت حكما على موردها بالسجن عشر سنوات ولا زال الجهاز يعمل بالشارع العراقي علما ان نفس الجهاز كان يعمل في الثمانينيات لكشف تسرب الغاز من انابيب النفط، فهل هناك خيانة للأمانة من قبل المسؤولين العراقيين والبرلمانيين أكثر وأفظع من ذلك؟

فالواجب الذي يقع على عاتق أعضاء مجلس النواب أولا وعلى أعضاء السلطة التنفيذية والقضائية هو حماية المواطن وتمثيله لا سرقته واستخدامه من اجل الوصول إلى المآرب الخاصة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *