عشرة افكار من وحي الاحتلال والمقاومة في العراق … بقلم معن بشور

عشرة افكار من وحي الاحتلال والمقاومة في العراق … بقلم معن بشور
آخر تحديث:

في البداية لا بد من كلمة شكر للهيئة الوطنية لدعم الوحدة ومقاومة الاحتلال على دعوتي للحديث في مناسبة شكلت وما تزال واحدة من ابرز المحطات التاريخية في حياتنا المعاصرة، وهي مناسبة احتلال بغداد في 9/4/2003، بل مناسبة انطلاق المقاومة العراقية الباسلة التي لعبت الدور الحاسم في اجلاء القوات الامريكية المحتلة، فيما كان البعض يريد تصوير يوم احتلال عاصمة الرشيد بأنه يوم وطني وعيد للتحرير في واحدة من اكبر عمليات التزوير والتضليل التي عرفها العالم منذ عقود.

وشكري للهيئة يتضاعف لانها استضافت أيضاً المناضل المنتظر الزيدي الذي اعتبره، كما كثيرون من ابناء الأمة، رمزاً للكرامة الوطنية العربية بل للكرامة القومية والانسانية.

 ولعل ربط مقاومة الاحتلال بالوحدة، كما نرى من اسم هيئتكم، هو المفتاح الرئيسي لمواجهة كل مشكلاتنا، وهي المواجهة القائمة على التلازم بين الوحدة والمقاومة، فالاحتلال، كما التدخل الخارجي، يتسلل عادة من ثغرات تكمن في بنيان الوحدة الوطنية أو القومية أو الاسلامية، فيما مقاومة الاحتلال تعزز الاحساس بالوحدة وتستمد منها القدرة على الاستمرار والتطور.

واسمحوا لي في هذه العجالة ان أستعرض جملة افكار كونتها من المواكبة شبه اليومية لمحنة شعبنا العظيم في العراق منذ حرب 1991 إلى الحصار إلى الاعتداءات الامريكية المحتلة إلى الاحتلال عام 2003 وما أرتكبه من جرائم وانتهاكات.

1- ان يوم التاسع من نيسان 2003 لم يكن يوم احتلال امريكي لواحدة من أهم عواصم الأمة والحضارة فحسب. بل كان أيضاً يوم انطلاق واحدة من أعظم مقاومات العصر سواء في سرعة انطلاقتها أو مدى فعاليتها، أو قدرتها، فاستطاعت رغم ما تعرّضت له من حصار وتشويه، على ان تهزم القوة الأكبر في العالم، وان توقف زحف مشروعها الاستعماري للهيمنة على المنطقة، وان تفسح في المجال لارادة الاستقلال في العديد من دول العالم لأن تتحول إلى قوة فاعلة تعيد ترتيب العلاقات الدولية، وتعيد صياغة النظام الدولي بعيداً عن التصورات التي أعلنها جورج بوش الابن قبل احتلال العراق عام 2003، وجورج بوش الاب عشية حربه الكونية على العراق عام  1991.

2- ان هزيمة الاحتلال الامريكي في العراق، بعد تكبيد إدارته الخسائر الضخمة على المستوى البشري والاقتصادي والاستراتيجي والاخلاقي، واجبار حلفائها على اجلاء قواتهم من بلاد الرافدين، لا تعني أن العراقيين قد انتصروا، فرغم ان جنود الاحتلال قد غادروا في معظمهم ارض العراق، لكن أثار الاحتلال ما زالت موجودة وهي تتمثل “بعملية سياسية” مفروضة عاجزة عن التوفيق حتى بين اركانها، وفي مناخ محاصصة طائفية يؤجج نارها كل يوم الاحتقان الطائفي والمذهبي والعرقي الذي تغذيه أيضاً قوى وحكومات معروفة الاهداف والمقاصد مستفيدة من مناخ الانقسام الوطني السائد في العراق ومن ممارسات حكومية خاطئة ومعروفة لدى معظم العراقيين.

بل ان أثار الاحتلال ما زالت قائمة كذلك عبر دستور يكرّس تقسيم العراق، ويلغي عروبته، ويبقي التوتر قائماً بين مكوناته، كما عبر قوانين واجراءات اطلقها الاحتلال في ايامه الاولى وما تزال سارية المفعول كحل الجيش العراقي واجتثاث حزب سياسي كان منذ عقود مكوناً رئيسياً من مكونات الحياة السياسية العراقية وهو حزب البعث.

3- لقد أظهرت السنوات العشر الماضية ان هدف الاحتلال ومن عاونه، وسهل تقدم قواته، وحرض  حكوماته على الحرب على العراق، لم يكن مجرد اسقاط نظام أو حزب أو رئيس، بل كان أساساً اسقاطاً لدولة ولكيان، لمجتمع ولجيش، لموقع ولموقف، لدور ولرسالة، وهو درس ينبغي ان نتنبه له ونحن نواجه حالات مماثلة في وطننا العربي حيث شبح التدمير يُطل  باسم التغيير، وشبح الفوضى يُطل باسم الحرية ، وشبح الفتنة يُطل باسم الاصلاح.

وكما كنا ندعو قبل الحروب على العراق القيمين على أمور البلد الشقيق بضرورة اغلاق كل الثغرات التي ينفذ منها المحتل، ندعو اليوم القيمين على الامور في اقطار عزيزة أخرى، بما فيها العراق نفسه،  إلى تحصين بلدانهم بالحوار والانفتاح والاصلاح والمشاركة كي لا يحقق المتآمرون عليها اهدافهم الخطيرة.

4- ان عشر سنوات من معاناة العراقيين تقتضي منا ان نجري جردة حساب، فننصف من كان ذا رؤية سليمة لاهداف تلك الحرب منذ اللحظة الأولى، وندعو من أساء التقدير أو أخطأ إلى مراجعة نفسه بجرأة وصدق، ونحاسب كل من حرّض وتواطأ وتخاذل وتآمر وفتح أرضه ومياهه وأجواءه لقوات الاحتلال ان تعبر إلى العراق ثم تمنح مقعد العراق في الجامعة العربية والمنظمات الاقليمية والدولية لحكومة عينها المحتل، وكل ذلك في انتهاك فاضح لميثاق جامعة الدول العربية ولمعاهدة الدفاع العربي المشترك ولكل روابط الاخوة القومية والمصير المشترك.

لقد تمت محاسبة البعض من هؤلاء الحكم وسيواجه الآخرون الحساب العسير من ربهم أولاً ومن شعبهم ثانياً ومن التاريخ دائماً.

5- لقد واجهت المقاومة العراقية، بكل مكوناتها، منذ انطلاقتها واحدة من أخطر عمليات التعتيم والتضليل والتشويه التي عرفتها مقاومة في العالم. فصورها اعداؤها منذ البداية انها مقاومة فئة من العراقيين في حين ان عراقيين من كل مكونات العراق كانوا شركاء فيها، وكلنا يذكر تكامل انتفاضة الفلوجة الأولى في نيسان/ابريل 2004 مع انتفاضة النجف الثانية في الشهر ذاته، وكيف سعى المحتل وادواته، وخصوصاً بعد تولي السفير الامريكي نيغروبونتي، الخبير باطلاق الحروب الاهلية في غير منطقة في العالم، إلى اعتماد مخططات لضرب الالتفاف الوطني العراقي حول المقاومة بعمليات دموية مشبوهة تفوح منها روائح الفتنة المذهبية المدمرة.

6- وكما كشفت الحرب الامريكية – الاستعمارية على العراق الاهداف الاستراتيجية الامريكية القائمة على تدمير العراق، وحماية الكيان الصهيوني، ووضع اليد على موارده النفطية واثاره التاريخية، فانها كشفت أيضاً حجم التحريض والتواطؤ والمشاركة الرسمية في تلك الحرب، ثم الاعتراف الفوري بنتائجها وآثارها.

كما كشفت تلك القوى عن وحدة الأمة العربية والاسلامية على مستوى الشعوب وقلة قليلة من الانظمة على مستوى الشعوب في مناهضة تلك الحرب وقبلها الحصار وفي دعم المقاومة، واليوم بعد عشر سنوات يتضح ان موقف الأمة لم يكن سليماً فحسب بل كان حكيماً، بينما اتضح لكل متردد آنذاك خطأ رهاناته وتحليلاته بعد ان اتضح خطورة ما كان يحاك للعراق.

ان التذكير بهذه الحقيقة لا يتصل بالماضي فقط، وانما بالحاضر والمستقبل أيضاً، لأن الحرب على المنطقة ما زالت مستمرة انطلاقاً من العراق عبر استهداف اقطار اخرى وفي المقدمة منها سوريا التي تواجه أيضاً حرباً لا تستهدف نظاماً أو حزباً أو رئيساً فحسب، بل تستهدف الدولة والمجتمع، الشعب والجيش، العمران المادي والنفسي، النسيج الوطني والاجتماعي، الموقع والموقف والدولة والرسالة.

7-  ان ما أُرتكب من مجازر وجرائم على يد الاحتلال وأدواته بحق الشعب العراقي، بما فيها جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، يستوجب حراكاً على المستوى القضائي لمحاكمة كل مجرمي الحرب الامريكية في العراق والتعويض على العراق بكل ما تكبده من خسائر واضرار.

وهنا الواجب يقتضي التنويه بجملة مبادرات في هذا المجال كالحملة القانونية التي اطلقها المركز العربي الدولي للتواصل وترأسها وزير العدل الامريكي السابق رمزي كلارك، وكان الامين العام السابق أ. خالد السفياني  ود. أشرف البيومي منسقين لها، وكالمحاكمات التي جرت في مصر وماليزيا وغيرهما من بلدان العالم.

8- في المؤتمر القومي العربي المنعقد في صنعاء في حزيران/ يونيو عام 2003، والذي  اختار لدورته الشهيد جار الله عمر، وبعد عدة اسابيع على الحرب الامريكية ضد العراق، اقترحت بعد انتخابي اميناً عاماً للمؤتمر ، في تلك الدورة، معادلة لمواجهة المرحلة الجديدة وأطلقت عليها معادلة “الميمات الاربع” وهي مقاومة، مراجعة، مشاركة، مصالحة، وأعتقد ان  هذه المعادلة ما زالت صالحة حتى الان داخل العراق وخارجها.

فمقاومة الاحتلال وأثاره يجب ان تعطى الاولوية داخل العراق وعلى مستوى الأمة، لا سيّما في فلسطين ولبنان، وينبغي ان يتم ترجمتها إلى مقاومة عربية شاملة، لأن هدف الاحتلال الامريكي، كان وما زال، هو الأمة كلها لا سيّما قوى المقاومة ومن يساندها.

والمراجعة أمر يفرض نفسه على جميع القوى المعنية بمقاومة الاحتلال وأثاره، بل هي شرط لتجاوز سلبيات الماضي، التي نتحمل جميعاً مسؤوليتها، كما هي شرط لايجاد مناخ يفسح في المجال لمصالحة وطنية شاملة تقود إلى مشاركة حقيقية هي التجسيد الحقيقي للديمقراطية في مراحل الانتقال.

ولعل العراقيين الأكثر ادراكاً لأهمية هذه المراجعة، فتاريخهم المعاصر هو عبارة عن محطات من الانتقام والثأر بين قواهم، حيث ينتقم من هو في موقع القوة من الآخرين الذين لا يستطيعوا مواجهته، ثم يصل هؤلاء أو بعضهم إلى موقع القوة فيعمدون إلى الانتقام من الغير، وهكذا دواليك فوجدنا العراق منذ عقود ساحة لصدام دموي مستمر لا ينحصر بالساسة فقط، بل يأخذ اشكالاً مذهبية وعرقية مرعبة ويجري تصديره إلى خارج العراق أيضاً.

اما المصالحة القائمة على هذه المراجعة فهي الطريق لكسر حلقة العنف المفرغة والمتجددة، بل لمحاصرة سلبيات الماضي والتطلع إلى ايجابيات المستقبل، بل هي السبيل إلى تحصين الوحدة الوطنية في مواجهة مخاطر التقسيم التي تلوح في الأفق، والى تحصين الاستقلال والامن القومي من كل محاولات التلاعب الخارجي بأمن البلاد واستقلالها واستقرارها.

في المصالحة يتنازل كل فريق لصالح الوطن، فلا يبقى مناضل اعتقله المحتل اسيراً، ولا مجاهد منفياً، ولا مكوّن سياسي اساسي مقصياً، ولا لغة التخوين المتبادل قائمة، ولا قانون الارهاب مسلطاً على رقاب العراقيين، ولا منطق التفرد والاستئثار سائداً. ولا دستور أنشأه المحتل متجاهلاً ارادة العراقيين وعقولهم كما تجسّدت في مشروع الدستور الذي أعدته ندوة علمية حول العراق نظمها بعد الاحتلال مركز دراسات الوحدة العربية وعلى رأسه شخصية بالغة الاحترام هو الدكتور خير الدين حسيب.

في المصالحة طريق لتحقيق المشاركة الحقيقية بعد ان اثبتت التجارب، على مرور الزمن، ان ما من طرف أو فئة تستطيع بمفردها ان تقدم اجابات على التحديات الخطيرة التي تواجه الوطن، كما الأمة.

ان معادلة الميمات الاربع هي اليوم معادلة الخلاص الوطني والقومي في العراق وخارج العراق، وهي تستحق نضالاً وكفاحاً وتجاوزاً لجراح لو بقينا اسرى لها توسعت وطالت اجيالا جديدة ونالت من وحدة الوطن واستقلاله وهويته العربية.

9- في الدورة ذاتها من المؤتمر القومي العربي، كان هناك أيضاً استشراف ان المقاومة العراقية بالتكامل مع المقاومة في فلسطين ولبنان وصولاً إلى افغانستان، ستكشف عمق الازمة البنيوية التي يعيشها النظام الاقتصادي والسياسي في الولايات المتحدة، وستؤدي إلى تفاقم ازمة هذه الدولة الاقوى في العالم وتؤدي إلى تراجع نفوذها ودورها، والى بروز نظام عالمي جديد مختلف عن ذلك الذي كان يروج له رؤساء الولايات المتحدة وحلفاؤهم وادواتهم لا سيّما في تل ابيب.

وأذكر حينها كيف واجه العديد من اعضاء المؤتمر باستغراب شديد الورقة التي قدمها الدكتور زياد الحافظ (امين عام المنتدى القومي العربي، وعضو الامانة العامة للمؤتمر القومي العربي حالياً) القادم آنذاك من الولايات المتحدة وهي ورقة تحلل بشكل علمي مأزق الدولة الكبرى الخارجة من “انتصار ساحق” في العراق كما كان منظروها والمثقفون الملتحقون بها يروجون.

كان الجو مسكوناً بالاحباط القاتم بعد احتلال العراق، وتهديد سوريا، والتآمر على المقاومة في لبنان وفلسطين، فجاءت الورقة المعبّرة عن رؤية استشرافية صادمة لكثيرين، كما عن سلامة النظرة القومية العربية ليس لاوضاع الأمة فحسب، بل للوضع الدولي بأسره وللترابط بينهما.

وعلى الرغم من اعتقادي بأن الولايات المتحدة ما زالت قوة كبرى من الخطأ الاستهانة بقدراتها، لكن أعتقد أيضاً ان ما واجهته هذه الدول في العراق والأمة من مقاومة بطولية على مدى عشر سنوات اربك اندفاعاتها وجعلها تبحث عن وسائل أخرى لتحقيق اهدافها والانتقام من كل ما ساهم   في عرقلة هذه الاندفاعة، وهو ما يتطلب من قوى المقاومة والممانعة أيضاً تطوير اساليب مواجهتها واعتماد استراتيجية تركز على التلازم بين الوحدة والمقاومة ليس داخل العراق فحسب بل على مستوى الأمة بأسرها.

10-                    في هذا الاطار ينبغي ان يتركز البحث بمسؤولية عالية في العلاقات العربية – الايرانية التي ينبغي ان نعترف ان تعثراً واجهها انطلاقاً من الواقع العراقي رغم ادراكنا لدور ايران المهم في مواجهة الحلف الاسرائيلي – الامريكي ودعم قوى المقاومة والممانعة في فلسطين ولبنان وسوريا. ولمواجهة مجمل الالتباسات والشوائب التي لحقت بهذه العلاقة الهامة في حياة العرب، ولتحصينها بوجه كل النزعات والغرائز العنصرية والمذهبية التي يجري تغيتها على امتداد الوطن العربي والعالم الاسلامي وذلك  من خلال قيام حوار بين نخب ملتزمة عربية – ايرانية تدرس كل جوانب العلاقات، وتقترح سبلاً لمعالجتها، كما عبر حوار بين القيادة الايرانية وسائر القوى السياسية العراقية يقوم على المصارحة كما على الاستشعار بالاخطار التي يواجهها الجميع، ولا يُستبعد منها أي طرف فاعل داخل العراق أيّاً كانت المبررات.

فالجميع مدعو ان لا يبقى اسير الماضي، بل يتطلع إلى المستقبل، فإذا كان الماضي في بعض جوانبه يفرّق، فالمستقبل بالمقابل يوّحد.

فنحن من مدرسة تؤمن بأنه لا بد من علاقة استراتيجية تجمع العرب مع أمم الجوار لا سيّما، الايرانية والتركية، على قاعدة الاحترام المتبادل للمصالح والسيادات الوطنية، كما على قاعدة التذكير الدائم ان العربي عربي، والايراني ايراني، والتركي تركي، وان ما يجمع بينهم كثير ولكن وصاية أي طرف على الآخر تضر بمصالح الجميع.

 هذه افكار للمناقشة في ذكرى تحرك فينا الالم وهي ذكرى احتلال بغداد ومعها كل العراق، وتحرك فينا الامل وهي ذكرى انطلاق مقاومة لم تسهم في تحرير بلدها فقط، بل تحرير المنطقة  والعالم كله .

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *