عن العدالة الانتقالية … بقلم عبد الحسين شعبان

عن العدالة الانتقالية … بقلم عبد الحسين شعبان
آخر تحديث:

  يُعدّ موضوع العدالة الانتقالية أحد القضايا الشائكة في موضوع تجارب الانتقال الديمقراطي، خصوصاً تلك التي حدثت عقب انتهاء النزاعات السياسية المسلّحة والعودة إلى الحكم المدني أو عقب النزاعات السياسية التي صاحبها نشوء حالات عنف مسلح أو تطورات من داخل السلطة السياسية حيث وضعت حدّاً لحكم تسلطي أو استبدادي واتجهت نحو الديمقراطية، ذلك أن هذا الخيار، ظلّ ملتبساً، وبخاصة إزاء المآسي التي تعرّض لها الضحايا، سواءً خلال النزاعات المسلحة والحروب الأهلية أو في ظل الحكم العسكري أو الأنظمة السلطوية الاستبدادية، لا سيّما مسألة الإفلات من العقاب (المساءلة العقابية) من جانب مرتكبي جرائم التعذيب والاختفاء القسري وبقية انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة . وإذا أردنا العودة إلى القواعد المعيارية بالنسبة إلى القانون الدولي الإنساني أو القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن مساءلة المرتكبين وتقديم الجناة إلى القضاء هما اللذان يمكن اللجوء إليهما كونهما قاعدة عامة، لكن الوقائع وضعت بعض الدلالات بشأن الإفلات من المساءلة، خصوصاً بتداخل السياسي بالقانوني أحياناً، وخصوصاً في الفترات الانتقالية . 

 وإذا كان الفريق العامل الخاص بالاختفاء القسري قد وضع مسطرة فيها 10 شروط لحالات الاختفاء القسري ( العام 1993- الدورة ال50 للجنة حقوق الإنسان) بهدف عدم الإفلات من العقاب، فإن عوائق وضغوطاً بالغة اعترضت تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية، وهي شروط سياسية وقانونية . على سبيل المثال، ظلّ موضوع الإفلات من العقاب في الأرجنتين هاجساً قائماً على الرغم من انتقال السلطة إلى المدنيين وتأليف الهيئة الوطنية حول اختفاء الاشخاص عام 1983 . وبرّرت الحكومة الأرجنتينية في ردّها على تقرير الفريق الخاص المعني بالاختفاء القسري العام 1993 (مداخلتها أمام لجنة حقوق الانسان، 1993) بما يلي: “واتّساقاً مع نظرية أن المذنب ينبغي محاكمته، كانت الضرورة تقتضي أن يوضع عدد كبير جداً في أقفاص الاتهام من الفاعلين المباشرين وغير المباشرين، ومن يلزم من أعوانهم وشركائهم والمتواطئين معهم ومساعديهم، وفي داخل هذه الفئات كان سيتعيّن تطبيق القانون على أغلبية الضباط وضبّاط الصف في القوات المسلحة وقوات الأمن، بل المجنّدين المشاركين في أعمال غير قانونية، وفضلاً عن ذلك كانت التحقيقات ستكشف عن المدى الكامل لمسؤولية آلاف الموظفين المدنيين في الحكومة المركزية والسجون وإدارة البلديات والمستشفيات وجميع المؤسسات الضالعة في أعمال القمع، فضلاً عن آلاف الشركاء المدنيين، ولو أمكنت تلبية هذا الطلب لأدّى ذلك إلى تفجير حالة من الفوضى” .

 لعلّ تجربة الأرجنتين من حيث شمولها واتساعها، ولا سيّما في موضوع المرتكبين، تقترب من تجارب البلدان الاشتراكية السابقة، وكذلك من التجربة العراقية في الماضي والحاضر، وإذا كانت مسؤولية الماضي الأساسية تقع على عاتق النظام السابق وأجهزته الأمنية والحزبية، سواءً عمليات الاختفاء القسري والتعذيب أو التهجير أو العقوبات الجماعية، ولا سيّما بحق الكرد بشكل عام والكرد الفيلية بشكل خاص، وكذلك خلال الحملات المعروفة باسم الأنفال فضلاً عن قصف حلبجة بالسلاح الكيمياوي 16-17- مارس/ آذار العام 1988 خلال الحرب العراقية- الإيرانية وما بعدها، أو خلال الانتفاضات الشعبية، ولا سيّما في جنوب ووسط العراق وفي كردستان في العام 1991 وفي فترة الحصار الدولي، فإن الانتهاكات الجسيمة والصارخة لكامل منظومة حقوق الإنسان تقع على عاتق قوات الاحتلال أيضاً والحكومات العراقية ما بعد الاحتلال، وقد كشفت أحداث سجن أبو غريب والسجون الأمريكية، إضافة إلى سجون وزارة الداخلية، حجم الانتهاكات التي تتحملها بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام ،1977 ولا يعفي ذلك الجماعات المسلحة والإرهابية من مسؤوليتها هي الأخرى، لما يحصل من أعمال عنف وإرهاب من دون احترام القوانين والأعراف الدولية .

 لذلك لو أريد فعلاً تقديم جميع المرتكبين وذيولهم إلى القضاء في تونس ومصر وليبيا واليمن والبلدان التي ستشهد تغييرات لاندلعت فوضى عارمة، ربما أكبر بكثير مما نشهده اليوم في ظل إرهاصات وتخندقات قد تؤدي إلى احترابات لا تحمد عقباها، ولكن ذلك لا يعفي المرتكبين من العقاب ومن المساءلة لجرائم لا تسقط بالتقادم، لكن السبيل للوصول إلى هذه النتيجة لا يمكن اقتباسه أو تقليده على نحو أعمى من تجارب سابقة، ولكل بلد خصوصيته، وقد يختار طريقاً غير مطروق، لكن من دون إهمال القواعد العامة المشتركة لمبادئ العدالة الانتقالية , لهذا، كان فريق العدالة الانتقالية على المستوى الدولي قد أكّد المصالحة الوطنية بوصفها السبيل الممكن، والأقل كلفة والأوفر حظاً، للوصول إلى مسار الانتقال الديمقراطي بتحديد المسؤوليات وكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإجراء إصلاح مؤسسي ضروري في الأجهزة الحكومية القانونية والقضائية وخصوصاً الأمنية، إضافة إلى دور المجتمع المدني التنويري في نشر وتعميق الثقافة الديمقراطية والحقوقية، ولمنع عودة الماضي .

 التجربة الأخرى التي استبعدت خيار الملاحقة الواسعة، ولا سيّما للفاعلين السياسيين الذين كانوا يتفاوضون حول الوضع الحساس للانتقال الديمقراطي استناداً إلى سلطة القانون واحترام حقوق الانسان، هي تجربة جنوب إفريقيا، وكان نلسون مانديلا قد دعا إلى التفكير في المستقبل بدلاً من الاستغراق في الماضي مؤكداً المصالحة الوطنية .     لكن موضوع المساءلة ظلّ يثير أسئلة متناقضة وحادة؛ فوفق أي اعتبارات يمكن ملاحقة المرتكبين؟ هل استناداً إلى قوانين قديمة كانت نافذة في العهد السابق أو استناداً إلى قوانين جديدة يتم تشريعها حالياً ويخضع لها المهتمون بأثر رجعي؟     لعلّ تجربة البلدان الاشتراكية السابقة تقدّم أكثر من نموذج بخصوص التواصل والاستمرارية القانونية أو القطيعة والقطع مع الماضي، فبولونيا وهنغاريا، على سبيل المثال، اختارتا فقه التواصل، ولهذا كان عدد الذين تمت مساءلتهم قليلاً ومحدوداً، في حين اختارت ألمانيا الديمقراطية، فقه القطيعة، لا سيّما بعد انضمامها إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية، حيث خضع المهتمون بالارتكاب إلى القوانين الألمانية الاتحادية . أما تشيكوسلوفاكيا فقد اختارت في بداية الأمر فقه القطيعة لكنها عادت واختارت فقه التواصل، وخصوصاً عشية انتقال السلطة سلمياً وبصورة سلسة من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي الجديد , أما في التشيلي فبعد مرور 10 سنوات على عودة الحكم المدني، فقد حدث تطور مفاجئ بإيداع الجنرال بينوشيه (قائد الانقلاب العسكري ضد الحكم الشرعي العام 1973) رهن الإقامة الجبرية تمهيداً لمحاكمته بعد احتجازه في بريطانيا ومطالبة القضاء في إسبانيا بمحاكمته . وكان الجيش قد أصدر قانوناً للعفو الذاتي، خلافاً لتجربة جنوب إفريقيا التي لم تقرّ مبدأ العفو، وكذلك تجربة الأرجنتين حين كان العفو آخر المسلسل . لكن كشف الحقيقة وتحديد المسؤوليات كان المرتكز للمصالحة الوطنية وطيّ صفحة الماضي لاحقاً .

 مثّل موضوع الكشف عن الحقيقة أحد أهم التحديات الكبرى في تجارب الانتقال الديمقراطي بعد المساءلة الجنائية، ولعلّ الكشف عن الحقيقة يشكّل أحد خيارات صدقية رجال السياسة والقانون . ويمكن إدراج ثلاث ضرورات ومبرّرات للكشف عن الحقيقة  , – الأول، رغبة الضحايا وعائلاتهم في معرفة الإجابات عن أسئلة كانت تتواتر: لماذا تم كل ذلك؟ وكيف حصل؟ ومن المسؤول؟ ولماذا وقعت كل تلك الانتهاكات والتجاوزات؟ وأين الحقيقة؟ وأي أماكن دفن الضحايا؟ وإلى غير ذلك من الأسئلة المشروعة والإنسانية . – الثاني، الرغبة في عدم طمس الماضي، فالماضي أساس الحاضر والمستقبل ولا بدّ من توحيد الذاكرة وتوثيقها، ولا بدّ أيضاً من معرفة تفاصيل ما حدث . لكي لا ننسى؟ – الثالث، الرغبة في معرفة الحقيقة كاملة بكل عناصرها . والسؤال: هل يمكن معرفة كل شيء؟ هل في إمكاننا إدراك ما حصل بتقادم السنين، وربما يرغب بعض صناع القرار في مثل ذلك، مثلما يذهب البعض ممن أرادوا النسيان . لكن وفق تجارب الكثير من البلدان حتى الآن لم يتم التوصل إلا إلى نتائج محدودة .     تتطلب العدالة الانتقالية كشف الحقيقة أولاً، ثم المساءلة وإنصاف الضحايا وتعويضهم وجبر الضرر، وذلك تمهيداً لإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، وذلك لمنع تكرار ما حدث ووضع حد له في المستقبل، ناهيكم عن إعادة تثقيف للمجتمع ككل بروح العدالة .                

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *