لست شيوعيا.. ولكن!؟

لست شيوعيا.. ولكن!؟
آخر تحديث:

 

 كفاح محمود كريم 

بعد سنوات من انتصار ثورة أكتوبر في روسيا بدأت أولى بواكير المدرسة الوطنية العراقية بالتبلور في بلاد مابين النهرين وعلى ضفاف دجلة والفرات، حيث دخلت الأفكار الماركسية في العقد الثاني من القرن العشرين، وذلك بظهور عدد من المثقفين الذين تأثروا بتلك الأفكار، وجلبوا عددا من الكتب الماركسية من البلدان المجاورة، وانكبوا على دراستها وتداولها بين عدد محدود من الأشخاص في بادئ الأمر خوفا من اكتشاف أمرهم، وبعيدا عن الإيغال في التاريخ فقد انعقد في الحادي والثلاثين من آذار 1934م اجتماع تأسيسي في العاصمة بغداد حضره شيوعيون من مختلف إنحاء العراق، وأعلنوا توحيد منظماتهم في تنظيم مركزي واحد باسم (لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار) وتم انتخاب أول لجنة مركزية للحزب الذي تغير اسمه فيما بعد إلى الحزب الشيوعي العراقي حيث اتخذت اللجنة المركزية قراراً بإعلان اسم الحزب الشيوعي العراقي بدلاً من الاسم السابق في عام 1935م.

 

أردت بهذه المقدمة المختزلة أن ادخل في رحاب تاريخ واحدة من أقدم واعرق مدارس الوطنية إن لم تكن الأولى في بلورة الفكر الوطني والمشاعر النبيلة بين مكونات بلدان الشرق الأوسط وخاصة العراق منذ تأسيسه وحتى يومنا هذا، والخطوات الأولى في مفاهيم الوطنية والنضال والتحرر الوطني والطبقي، مدرسة تتبنى فكرا يقدم الإنسان كقيمة عليا لا فرق بينه وبين الآخر لأي سبب في الجنس أو الدين أو اللغة أو القومية.

 

لقد عرفت هذا الحزب في شخص عمي عبدا لله كريم الذي اعتقل فجر العاشر من شباط 1963 م على أيدي البعثيين، الذين اقتحموا البيت مع ساعات الفجر الأولى دونما إذن مسبق أو حتى تنبيه على الباب، مستخدمين اساليبا أقل ما يقال عنها بأنها ليست آدمية في اقتحامهم للبيت والعبث في حاجياته وأثاثه دونما خجل أو حياء من نساء وأطفال يغطون في نومهم العميق في ساعات الفجر الأولى، لقد اعتقلوه وهو معلم وفنان تشكيلي وإنسان أرق من النسيم وأكثر شفافية من خيوط الفجر في تلك الساعة السوداء، ذلك الإنسان الإنسان والفنان والكاتب والمعلم الكبير في مدرسته ومجتمعه، واقتادوه بكل وحشية وحينما سألته زوجته وسط بكاء الأطفال وعويلهم، من هؤلاء ضحك وقال إنهم أحفاد شرطة الجسر(!) وكان يقصد شرطة نوري السعيد التي فتحت النار على المتظاهرين إبان انتفاضة الجسر في أواسط الأربعينات من القرن الماضي حيث كان طالبا في دار المعلمين التي عرفت حينذاك بـ ( الريفية )، في هذه اللحظة عرفت من يكون الإنسان الشيوعي ولماذا يعتقل ويغتال وتقتحم داره، وتدمر مكتبته وتصادر أو تحرق كتبه وكتاباته، فقد دمروا كل شيء في البيت يومئ إلى الثقافة والكتب واللوحات وعبثوا بكل محتوياته بما في ذلك تلك الحديقة الصغيرة.

 

لم يوصف الشيوعي بالكفر إلا بعدما تسلط حزب البعث على السلطة في مطلع ستينيات القرن الماضي في محاولة فاشية لإسقاطه اجتماعيا كون معظم المجتمعات العراقية محافظة عقائديا، بل واستخدم أسلوبا دعائيا رخيصا لتوصيف أعضاء وكوادر هذا الحزب التي كانت تنتمي أصلا لأسر محافظة جدا، ورغم كل ما كانت تفعله ماكينة دعاية البعث ومن ماثله من تنظيمات قومية عنصرية أو دينية متطرفة بقي هذا الشيوعي نموذجا تربويا رفيعا وشخصية اجتماعية نبيلة في سلوكها وايجابيتها يذكرها جيلنا وهو يتذكر تلك الشخصيات النادرة في أخلاقها وعطائها وإنسانيتها، فكم منا لم يدرسه معلم شيوعي أو مدرس شيوعي في الابتدائية أو المتوسطة أو الثانوية ونقشت سماته الرفيعة في ذاكرتنا؟

 

هذا الشيوعي المتهم بالكفر علمنا ونحن صغارا لم نتجاوز السابعة من العمر أول مبادئ حب الوطن والشعب والمدرسة والعلم واحترام الكبير ورعاية الأصغر، علمنا إن نحب العربي والكوردي والتركماني والكلداني والسرياني والاشوري والمسلم والايزيدي والمسيحي وعدم التفرقة بين البشر لأي سبب كان، فكلهم أخوة في الإنسانية بصرف النظر عن اللغة والدين والجنس والعرق، كان يقول إن المرأة إنسانة عظيمة علينا احترامها وتقديرها، أماً كانت أم بنتا أو أختا، ولا يجوز إهانتها أو الاعتداء على كرامتها الإنسانية، علمنا إن للبشر حق تقرير مصيرهم واستخدام لغتهم وثقافتهم وان للفقراء حقوق مثل كل البشر وعلينا أن نعمل من اجل سعادتهم، أبعدنا عن الخرافات وأعمال الشعوذة وشق لنا طريقا في فضاء الثقافة الرصينة وتحليل الظواهر قبل قبولها والسؤال المستمر للوصول إلى الحقيقة دونما الاستكانة أو الرضوخ لموروثات في الفكر أو العلم أو العادات والتقاليد مع إمكانية تطويرها بما يتناغم والعصر الحديث.

 

لقد تعرض هذا الحزب إلى أقسى أنواع الحروب وأكثرها همجية على أيدي معظم أنظمة الحكم في العراق وغيره من بلدان الشرق الأوسط والعالم المتخلف لكنه دفع إلى مسرح الوطنية ارفع شخصياته ومفكريه وأصبح نموذج الإنسان الحر، بل انه كان مدرسة الوطنية الأولى في معظم دول العالم التي انتشر فيها، وتخرج منها فكرا أو ثقافة أو سلوكا كبار شخصيات تلك الدول ومفكريها ومثقفيها، فتحية إجلال وإكبار في ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي، الحزب الذي أصبح تراثه مدرسة ونضاله نموذجا للتحدي والصمود وأعضاءه مثالا للخلق الرفيع والانتماء الراقي والوطنية الحقة.

 

صحيح إننا لم نكن شيوعيون ونختلف معهم هنا وهناك لكنهم حقا مدرسة للوطنية الراقية، تعلمنا منها الكثير وتتلمذنا في فصولها على ثقافة العدالة الاجتماعية وإنصاف المضطهدين والدفاع عنهم وعن حق تقرير مصيرهم، حقا ترفع لهم اليوم في ذكرى تأسيس المدرسة الوطنية العراقية كل القبعات.

 

[email protected]

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *