من مذبحة ماي لاي إلى سجن أبو غريب! … بقلم عبد الحسين شعبان

من مذبحة ماي لاي إلى سجن أبو غريب! … بقلم عبد الحسين شعبان
آخر تحديث:

سيمور هيرتش أحد أبرز الصحافيين الاستقصائيين وأكثرهم شهرة هو الذي قام بكشف فضيحة سجن أبو غريب، وقد صُدم العالم بتقرير نشره مع صور لسجناء عراة وهم يعاملون بإهانة وتقودهم جندية أمريكية وهي تمسك بحبل، فهل تعلّمت واشنطن درساً مما حصل؟ وهل استفاق العالم لوضع حد لهذه الظاهرة المشينة التي لا تزال مستمرة في عالمنا، على الرغم من أن المجتمع الدولي منذ العام 1948 كان قد قرّر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة الخامسة): «لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطّة بالكرامة». وفيما بعد اعتبرت الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، الصادرة في العام 1984 جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم، الأمر الذي يعني إمكانية ملاحقة مرتكبيها بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة وتاريخ حدوثها.

الصحافي سيمور هيرتش الذي سبق له أن كشف مذبحة ماي لاي التي قام بها الجيش الأمريكي العام 1969 أثناء الحرب على فيتنام، والذي نال جوائز عديدة ومرموقة، قال بمناسبة الذكرى العاشرة لفضيحة سجن أبو غريب: كان هناك سجناء عراقيون عراة وجرى إذلالهم جنسياً وتعذيبهم واقتيادهم خلف بعضهم كالكلاب، وكان إلى جانبهم جنود أمريكيون يلتقطون الصور مستمتعين.
انتشرت تلك الصور في العالم على نحو مذهل مثيرة جدلاً أقرب إلى الدوي عن جريمة شن الحرب واحتلال العراق، خارج نطاق ما يسمى بالشرعية الدولية، ثم جرائم الحرب المرتكبة، بما فيها أعمال الإبادة المنافية للإنسانية، وخصوصاً للسكان المدنيين، بالضد من اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977.
قال سيمور هيرتش بمناسبة الذكرى العاشرة لفضيحة سجن أبو غريب: كان هناك سجناء عراقيون عراة وجرى إذلالهم جنسياً وتعذيبهم واقتيادهم خلف بعضهم كالكلاب، وكان إلى جانبهم جنود أمريكيون يلتقطون الصور مستمتعين.
وكانت فضيحة أبو غريب بما لها من رمزية أخلاقية وإنسانية وقانونية بداية العدّ العكسي للاحتلال الأمريكي للعراق، خصوصاً بعد الخسائر المادية والمعنوية التي لحقت بالولايات المتحدة وسمعتها، والتي زادت على أربعة آلاف و800 قتيل وأعداد من الجرحى بلغت 26 ألفا مما تحتفظ به سجّلات البنتاغون، غير الجماعات المتعاقدة معها والشركات الأمنية والمرتزقة، وأكثر من تريليوني دولار، الأمر الذي عاظم من جهود الرأي العام الهادف إلى الانسحاب من العراق، وزاده تأثيراً وعمقاً الأزمة المالية والاقتصادية في الولايات المتحدة والعالم.
وكانت إشارة البدء بنشر أخبار الفضيحة، تقرير سري سمّي بتقرير «تاغوبا» نسبة إلى اللواء أنطونيو تاغوبا الذي قاد عملية التحقيق بجرأة مؤكداً حصول الانتهاكات. وبالطبع لم يكن ما حصل بعيداً عن تقارير منظمات دولية مثل منظمة العفو الدولية أو الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان (FIDH) أو المنظمة العربية لحقوق الإنسان أو منظمة مراقبة حقوق الإنسان (HRW) فقد سبق لهذه المنظمات جميعها أن تحدثت عن الظروف القاسية للسجون العراقية بعد الاحتلال، مثلما تحدثت عنها قبله، لكن الأمر كان يحتاج إلى أدلة وإثباتات، خصوصاً وأن وسائل الإعلام لا تكتفي بنشر الأخبار، بل يستلزم الأمر عرض وثائق وصور، والاستماع إلى شهادات مباشرة، وهذه بحد ذاتها خبر، فالصورة في عالم اليوم وفي ظل العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات والطفرة الرقمية «الديجيتل» أصبحت خبراً يغني عن الكثير من المقالات، لاسيّما وهي تتسلّل عبر الانترنيت والتويتر والفيسبوك والهاتف النقال والمحطات الفضائية بعد لحظات، فتدخل البيوت وغرف النوم دون استئذان لتعمل على تشكيل الرأي العام والتأثير عليه.
ولعلّ ذلك ما حصل بخصوص سجن أبو غريب والفضيحة المدوّية التي أثارها، كان قد لفت الانتباه العالمي في الوقت نفسه إلى سجن غوانتانامو الذي وعد الرئيس أوباما في ولايته الأولى بإغلاقه بعد مرور عام، لكنه لم يفعل شيئاً حتى الآن، وكذلك بخصوص السجون السرّية الطائرة والسجون السرّية العائمة، وهي سجون متحرّكة وغير ثابتة.
كان اللواء تاغوبا حسب سيمور هيرتش، رجل رائع وشريف، وقد انتهت حياته المهنية بعد ذلك، ولاسيّما عندما كشف حقيقة التعذيب الذي حصل في سجن أبو غريب، وكان تقريره «كلمة السر» أو القاسم المشترك لجميع القوى المناهضة للاحتلال، حيث انتشرت في كل مكان، وسرت مثل النار في الهشيم، وكانت الصورة التي هزّت العالم في العام 2004 قد أصبحت إحدى بشاعات الاحتلال: رجل يرتدي الأسود بالكامل وقد تم وضع كيس أسود على رأسه، وتعليق الأسلاك في يديه ووقف على علو، فاتحاً ذراعيه، تلك الصورة وحدها شهادة على الطبيعة اللاإنسانية للاحتلال.
تعرّفت لاحقاً على صاحب تلك الصورة الشهيرة واسمه علي القيسي وأجريت معه حواراً، ليقدّم فيه شهادته الحية عن التعذيب في سجن أبو غريب، وهو ما نشرته مجلة المستقبل العربي الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية في حينها، وكانت صورته قد سبقته إلى المحافل الدولية والحقوقية وإلى شاشات التلفاز ووسائل الإعلام المختلفة.
يقول علي القيسي : تم اعتقالي في 13/10/2003 في منطقة العامرية في بغداد، وجرى نقلي إلى أحد المواقع العسكرية الأمريكية التي فيها معتقل أيضاً، وبقيت فيه يومين، ومن ثم تم نقلي إلى سجن أبو غريب… وكان أول سؤال لي هل أنت سني أم شيعي؟
وعندما حاول القيسي مجادلة المحقق، قال له المحقق بحزم: أجبني، ثم وجه له سلسلة من الاتهامات من بينها أنت ضد السامية، وبعدها سأله لماذا لديك تداخل جراحي في يدك… فلا بدّ أن تكون قد ساهمت في مقاومة القوات الأمريكية، ولم يقتنع المحقق أن عملية يدي كما يقول، أجريت قبل الاحتلال حتى بعد تزويدي له باسم الدكتور الذي أجرى العملية (عماد سمسم) وزوّدته برقم هاتفه.
وكانت عملية «الحصان الحديدي» تقتضي جمع أكبر عدد من وجهاء المجتمع وشخصياته النافذة، والذين هم على معرفة بأحوال الناس، وذلك بهدف التعاون مع الاحتلال، والاستفادة منهم في ملاحقة العناصر التي تشكّل خطراً على الأمريكان.
يستغرب القيسي من هذا الطلب لأنه لم يكن ثمة أخطار على الأمريكان في تلك الفترة، لكن الضابط قال له لقد صرّحت في الصحف ضدنا، وحاولت تنظيف ساحة مهجورة في أبو غريب لتصبح ملعباً للأطفال، وهكذا تم اعتقاله واستغرق التحقيق معه عشرة أيام، وكانت إحدى المجنّدات قد حققت معه لمدة ساعة ونصف وهددته بإرساله إلى سجن غوانتانامو إن لم يتعاون معهم وكان رقمه 151716، وحصل الأمر في شهر رمضان حيث بقي لمدة ثلاثة أيام بدون أكل ويتم صب الماء عليه والأصوات في أذنيه، وبعدها جرى ربطه من يديه في الزنزانة وجاءوا بسماعة وبدأوا بموسيقى صاخبة.
ورداً على سؤالي عن مقارنة لتعذيبه في ظل النظام السابق وتعذيبه بعد الاحتلال، يقول: كان التعذيب أعمى، أما تعذيب الأمريكان فهو فني يستخدم التعذيب النفسي والحرمان من النوم وإطلاق الكلاب والموسيقى. وهو مثل سيمور هيرتش لا يعتقد أن الأمريكان تعلّموا الدرس وأخذوا العبرة من تلك الفضيحة.
وعلى الرغم من الإدانة العالمية لفضيحة سجن أبو غريب وما كتبه سيمور هيرتش فإن التقرير الذي أعدته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية حالياً والذي زاد على 6000 صفحة، والذي ظلّ سرّياً، مع تسريبات لملخصه، يقول إن الجيش الأمريكي يستخدم طرقاً غير شرعية للاستجواب والتعذيب. وإذا كانت الحكومة العراقية قد أغلقت سجن أبو غريب، لكن التعذيب لم ينتهِ وما زالت الكثير من الألغاز والخفايا مستمرة، بما فيها تواطؤ بعض الأطباء خارج شرف المهنة ووجود مستشارين يبرّرون ويسوّغون مثل تلك الأعمال تحت ستار الأمن القومي وهي التبريرات التي سمعناها من واشنطن، وإذا كانت ظاهرة التعذيب متفشية، بل تكاد تكون روتينية في العديد من البلدان النامية ومنها العربية والإسلامية، فإن البلدان الغربية ليست بريئة منه، سواءً إبان تورطها في حروب خارجية واحتلالات عسكرية أو عقوبات جماعية وحصارات دولية أو حتى في سجونها، وتعاظم الأمر بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) العام 2011 الارهابية الإجرامية، لكن ذلك كلّه لا يسوّغ اللجوء إلى التعذيب كمبرر لمكافحة الارهاب الدولي.

* باحث ومفكر عربي

 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *