يذكرني رمضان بالذي كان … بقلم د.عمران الكبيسي

يذكرني رمضان بالذي كان … بقلم د.عمران الكبيسي
آخر تحديث:

تنقلني أيام رمضان دائما إلى أجواء زمان، حيث تبدو صور الذكريات العتيقة أكثر جمالا في النفس، وأوقع في القلب، وأدعى إلى الذاكرة، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النيران، كلمات فطرت على سماعها صغيرا من شيخ الجامع في قريتنا، يرددها حتى حُفرت في قلبي ومخيلتي، وما برح صدى صوته الشجي يطرق سمعي وصورته تغشى بصري، وكلما نطق أحد “شهر رمضان” يسرد شريط الذكريات صورا اختزنتها ذاكرة طفولتي للشهر الفضيل، لقد غابت شعائر وطقوس تلمسناها صغارا، وتوارت في الكبر بتغير الزمان والمكان، وبقيت قيد المخيلة تجذبني إلى الماضي العذب، حيث لم تعد الدار داري، ولا الخلان خلاني. طقوس ما كان ينبغي حرمان الأجيال بهجتها، كنا ننتظرها، نشتاق إليها، ونستبشر بها، ونمارسها بشغف وخشوع، ونتنافس في إحيائها وأدائها صحبة أهلنا وجموع القرية متآخين بلا تفرقة ولا تخصيص أو تعميم.

غابت مسيرات الأطفال يجبون الطرقات بعد الإفطار بالأناشيد الرمضانية العذبة، يجمعون الحلوى فرحين، عكس ما يجري اليوم فما نكاد ننهي إفطارنا إلا ويتسمر الكبار أمام التلفاز يتابعون المسلسلات من قناة لأخرى، فلا يجد الأطفال بعد الإهمال غير اللجوء بحزن إلى الآيباد يشغلون أنفسهم بألعاب الكترونية سقيمة، لا تطعمهم من التربية شيئا ولا تسقيهم. أذكر في صبانا كنا نذهب صحبة آبائنا زرافات إلى المساجد لصلاة التراويح، والمصلون يربتون على أكتافنا ويمسحون رؤوسنا بعطف، وكم شاهدت نساء الجيران تجتمع في بيتنا لأداء صلاة التسابيح، أربع ركعات بعد العشاء في كل ركعة 75 تسبيحة ينهينها قبل عودة الرجال من الجامع، وكنا نصلي التراويح 23 ركعة تتخللها استراحات نسبح لله ونحمده ونوحده ونكبر، ونعاود الصلاة، فنختتم بصلاة التراويح القرآن الكريم آخر الشهر، واقتصرت التراويح الآن على ثماني ركعات بعجل، واختفت صلاة التسابيح التي قال المحققون فيها: لا يسمع بعظيم فضلها ويتركها إلا متهاون بالدين، ويخبرنا الصاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها لعمه العباس، وجعلها الصالحون من أورادهم، ومن فعلها يسر الله له دخول الجنة، رواها الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس. كان رمضان شهر السلام والأمان ولم نعرف سيارات تفجر قرب المساجد وحدائق الأطفال والميادين، ولم نستبدل التسبيح والتكبير باعتصامات وتظاهرات تهتف يسقط ويعيش.
كان يشق على صبيان القرى الصيام، حيث ترتفع الحرارة ولا كهرباء ولا مكيفات ولا مراوح، وأشق اللحظات قبيل الإفطار، فرغم صغري كنت ملزما بإيصال أطباقا مما نطهو للجيران والأسر المتعففة، مثلما نتلقى منهم أطباقا متنوعة، فتعج مائدة الإفطار بكل شهي، كانت النسوة تتفقن أن تطبخ كل منهن نوعا وتتبادل الأسر بينها الأطباق، وكنت أدخل بيوت الفقراء وأفاجأ بموائد إفطارهم أكثر أطباقا مما لدينا بفضل الموسرين حولهم، وكان عزائي أن أشاهد رفاقي يفعلون ذلك، فنتفاخر أيهم طبقه أكبر وأفضل، مما لا نشاهده هذه الأيام. كان علي وأنا الابن الوسط لا الصغير ولا الكبير، أن أوزع استحقاق الزكاة فأبي يوزعها سكرا وشايا من حانوته، وكذلك زكاة الفطر فأسرتنا كبيرة ونوزع قمحا على الأسر المتعففة، كان الناس رحماء بينهم بود وبساطة، لم تفرقهم المذاهب ولا يتنابزون بالألقاب، ولا يسخر بعضهم من بعض.
وكان المسحراتي يبدأ جولته بعد منتصف الليل طارقا طبله مناديا “اصح يا نايم، وحد الدايم، الصوم ولا النوم، سحـــــــور” لا يمنعه برد ولا يعوقه مطر، نسمعه ولا نراه إلا صباح العيد عند الأبواب ومعه حماره وخرجه وطبلة يطرق عليها مهنئا، فمن ليس لديه نقود يعطيه زادا، وعند وقت الإمساك يعتلي المؤذن سطح المسجد وينادي “اشرب الماء وأمسك” ثم يؤذن لصلاة الفجر، وكان الجيران يدقون الجدران على بعضهم تنبيها لوقت الإمساك والخروج لصلاة الجماعة، وكانت البلدية تنير الطرق ليلا بفوانيس الزيت ينظفها العمال وتملأ قبل الغروب بالنفط وتضاء. فالزيارات العائلية تكثر في ليالي رمضان وتستمر حتى وقت متأخر، يجتمع أولاد الأعمام والأخوال يسمعون حكايات جدتهم وحزورات رمضان بفرح غامر، ولم نعش زمن الخيمة الرمضانية والمقاهي المختلطة تغري وتفسد الصيام، كانت الأسر الموسرة تحيي ليالي الاثنين والخميس بغبقة الموالد النبوية الشريفة وقراءة الأذكار والمدائح النبوية، تتلوها وجبات الملفوف، فاستبدلناها بغبقات الأنس المختلطة بالفنادق نتفكه فيها بأحاديث مما حرم الله، فأين نحن مما كان؟
كنا في أواخر رمضان نشاهد صواني كعك العيد تخرج من الدور إلى الأفران، لم نعتد الكعك التجاري، فتصنعه الأسر محليا من الدقيق الأبيض المعجون بالسمن والسكر وتُحشى بالتمر والجوز واللوز وتقدم للزوار المهنئين بالعيد مع الشاي والشراب، ما ألذ وما أشهى! كنا نصوم لرؤية الهلال ونفطر لرؤيته لا يتهكم جار من جاره ولا تلمز أو تغمز طائفة أخرى، أعاد الله رمضان بالسلامة عليكم وعلينا بالخير، ووشح لياليه بالألفة والمودة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *