عبدالكريم كاظم
الكتابة الشعرية عند عدنان محسن هي الحياة ذاتها في تواصل تجاربها: الذاتي والمعرفي والجمالي في منطق شعري له إطاره اللغوي وحريته اللفظية، ولعل عدنان أحد القليلين الذين وظفوا النص مع التجربة بشكل مجرد أو قد يكون في طليعة هذه القلّة، من الشعراء، التي وعت طبيعة الكتابة الشعرية، المتصلة بالالتقاطات الموجزة، في تطورها وتاريخيتها، طبائعها وتقاطعاتها الزمنية، ونظر إلى هذه الطبيعة المجردة من زاوية التحولات اللغوية وارتباطها بخصائص الكتابة الشعرية الجديدة المنبثقة من التجارب الحياتية والمعرفية والتي انعكست مضامينها، أيضاً، في الفكر الشعري المتأمل والإبداعات الفنية والأدبية، فهذه القدرة، على التجدد، تمخضت عنها فلسفة شعرية تستمد نظامها الفكري واللغوي والفني من ميدان الفنون الأدبية على اختلافها . وهكذا صار عدنان محسن في مجمل نصوصه الشعرية وريثاً لهذا الارث الشعري العراقي الذي اطلّت تباشير حداثته في اربعينيات القرن الماضي .
شكلت تجربة عدنان محسن الشعرية معجماً من الالتقاطات والإشارات والمعاني الجديدة النابعة من الوعي الشعري الحداثي واستدلالاته، وقد أراد بهذه الإشارات أن تحل محل الكتابة الشعرية المستعادة التي فقدت آخر ما تملكه من اللغة الشعرية المتجددة، هناك الكثير من النصوص، التي يكتبها، تحمل طابع المغايرة في المعنى واللفظ، كما نجد استغراقاً مفرطاً بالتجربة الذاتية، وهذا المنحى الاستغراقي ظل متحركاً عنده لا يعرف السكون بدءاً بنصوصه الأولى واستمراراً في كل ما نشره بعدها من نصوص جمعت فيما بعد وشكلت نصوصاً متناسقة المعاني كان همه فيها، أيضاً، أن يجعل النص الشعري متصلاً بالحياة والذات والتجربة، متصلاً بالدلالة يماهي تفاصيلها المتشعبة ويندغم مع رموزها . وهذه النصوص تستمد حيويتها وتجددها من كون دلالاتها استجابة لاحتدام المعنى باللفظ، والقارئ النقدي لهذه النصوص يشعر أن صاحبها يخوض غمار شقاء شعري بكل ما تعنيه لفظة شقاء من معنى، والشقاء الشعري لا يتأجج إلا إذا وجد الحافز المعرفي والجمالي واللغوي أو هذه كلها مجتمعة حيناً أو متنافرة أحياناً، فالحافز، كما هو معروف، هو الذي يبعث على الاستزادة من معين اللغة وكل لغة تؤدي إلى شقاء من نوع ما، وكل نص يرمي إلى شكل من أشكال التعبير المغايرة أو القول الشعري المختلف، لنتأمل هذه الالتقاطات الشعرية: (لعنة: دعوني ألعنهم، بعد صمت طويل، هؤلاء الذين وضعوني في آخر الدنيا وبلادي في مؤخرة التأريخ) (الآن: اكتب تأريخ العالم في سطرين، أكسر وزن القصيدة، الآن ما أوحش هذه الآن) (العراقي الحزين: تأخرتُ كثيراً، وصرتُ أسابق ظلي، فارتطمت كل الشوارع في قدمي) وبهذا المعنى كان عدنان محسن شاعر الالتقاطات الموجزة بين شعراء جيله، وقد كان همّه، كما يبدو للقراءة، تحويل اللحظة الشعرية إلى لحظة محسوسة، وكان همه أيضاً أن تكون هذه اللحظة الشعرية وثيقة الاتصال بالمعنى وغاية في البساطة والإيجاز، ولا بّد لتكون اللحظة الشعرية موجزة أن تتحول مع المعنى أي إلى معنى يتشكل به أسلوب الحياة التي هي غاية الكتابة الشعرية .
يكتب عدنان بأسلوب مبتسر، أي بأسلوب لغوي لا يعرف التبهرج اللفظي، وكان مدركاً لمعنى الخروج من الأساليب اللغوية المنمقة، فاللغة ليست مجرد اداة إيصال بل هي حاضنة للمعاني، وهذه اللغة تضفي على التجربة والوعي الشعري لمسة جمالية مختلفة، فتجعلنا نرى النص بضوء نقدي مغاير تحدده هذه اللمسة، والتعامل مع النص في تطوره، المتصل باللغة الشعرية المبتسرة، يقتضي استحداث الأساليب اللغوية المعبرة عن هذا المعنى وتلك الدلالة، لنقرأ بعض من هذه اللمسات الجمالية: (تفردات: وحده الشك يلبس أردية يقينه) (عبارة حب: خاتم يضيء، تعثرت أنواره قبيل الوصول إلى أصابعها) (بغداد: بغداد ممنوعة من الصرف، هكذا قرر سيبويه ومن معه) (أبجدية الاخطاء: قطعت حياتي كلها مشياً على الأخطاء) إضافة إلى بعض النصوص التي تحمل عناوين: (بحث ، سلالات، امرأة من هناك، طبع، قدر، رغبات، الأفاكون) .
عنصران لغويان أسسا لأسلوبه الشعري الذي تميزت به نصوصه الشعرية: العنصر الأول تجربته المتميزة في كتابة الومضة الشعرية، والعنصر الثاني معرفته الجمالية في كتابة المعنى، الموجز خصوصاً، بمختلف الفاظه البلاغية، وإذا أضفنا إلى كل هذا، ميوله نحو حرية المخيلة، سوف يتيسر لنا اكتشاف تفاصيل تجربته الشعرية في مجمل نصوصه، وأشير هنا أيضاً إلى بعض عناوين النصوص: (الحاضر، تصريف فعل، اخطاء، عزلة، حرائق، حذر، وهم، برد، شاعر، تقريظ للفقر، إدعاء، طاغية، إدمان، رغبة) . وظني أن عدنان محسن ظل مخلصاً لنصه الشعري المكنون مثل ناسك لا يتخلى عن التقاطاته الشذرية أو إشاراته الرمزية المبتسرة في أغلب كتاباته، وبهذا المعنى، أيضاً، نستطيع أن نقرأ هذا التشكيل الجمالي الفني في تجربته الشعرية من غير إدعاء نقدي ضاج .
ثمة لغة موجزة تقوم على التشكيل الفني لبنيات النص ومنطق المعنى وعلاقات الدلالة، من هنا يمعن الشاعر في الإيجاز، ليكتب اللفظ ولتنبثق المعاني والرموز ولتكتشف القراءة لحظة الاتصال بتجربة الشاعر، وإذا كان الشاعر مستغرقاً في التجربة فسوف يظل النص متصلاً بالقارئ، لكن هذا ليس كل شيء، فلكي تكتمل عملية الاستغراق في التجربة، الذاتية خصوصاً، التي يسعى الشاعر لتدوينها سوف يتلمس القارئ، أيضاً، إشارة شعرية جديدة لمعنى جديد، لنطلع على بعض هذه الإشارات: (مفارقات: لم يبق من احجاري الكريمة سوى الذاكرة، لم يبق من الحلم سوى أضغاثه) (بطاقة شخصية: قد اكون أنا الذي ألقى بأخطائه الشائعة على مرمى حجر من حياته ثم صافحها بحرارة بالغة) (المجهول: لكل منا غار حراء جديد، بلا عنكبوت يخفيه) إضافة إلى هذه الإشارة التي يتماهى بها الشاعر مع عبارة الشاعر الفرنسي رامبو أو يحاول أن يقيم مقاربة لغوية جمالية فيكتب: (خبز عراقي: اليوم أجلست العراق على ركبتي فوجدته مراً) فبعد تلاشي (الجمال، المرير) من عبارة رامبو استبدلها عدنان بـ (العراق، المّر) وهكذا يستسلم القارئ لهذه المقاربة أو لهذا التماهي .
يتلمس القارئ نصوص عدنان كما يتلمس حواسه، أو كلما تسنى له أن يمارس حريته القصوى في القراءة، ففي ثنايا النص لحظات لا تتجلى في عريها الظاهر فحسب ولكنها تكمن في الخفاء، أيضاً، المتصل بلذة المعنى وسرية الدلالة التي لا تضاهى، خصوصاً بعض من نصوصه الموزونة، ولا أعني هنا بالأوزان الشعرية المعروفة/بحور الخليل، بل ذلك الميل الفني إلى الايقاع، حتى نصوصه المكتوبة خارج الوزن لم تغادر إيقاعاتها، من هنا يمنح الشاعر لنصوصه خصوصيته الشعرية ولكي يتفادى السهولة أو المباشرة في الكتابة، ويمكن للقارئ أن يكتشف هذه النصوص ويتمتع بإيقاعاتها ويكتشف أيضاً رؤية الشاعر أو بصماته المتصلة في كل نص، لنقرأ: (النوني: إن الجنة تحت أقدام غريب، أو غريق، فرسمت بالماء وبالغياب زوارقي) (الماضي: مثل تاجر أعلن للتو أفلاسه وراح يحدق بدفاتره القديمة، سأفتح صفحة الماضي وأصفي حساباتي مع الماضي) .
لغة عدنان محسن الشعرية متاحة ومستعصية في آن واحد، لغة للغواية أيضاً لأنها تمنح للقارئ فرصة الانتقال من معنى إلى آخر، ومن مستوى إلى آخر من مستويات الدلالة، لغة تستدرجنا إلى جمالية اللفظة المتاحة، لغة مستعصية تُظهر لنا معنى أن يكتب الشاعر كما يعيش، وأعني بمعرفة الشاعر المأخوذ بضرورات الحياة والتجربة والمعنى الجمالي واللغوي، وهذا بالضبط، كما يبدو للقراءة، ما ميز ويميز تجربة الشاعر فيما يكتب من نصوص والتقاطات وإشارات، ثمة نصوص يكتبها عدنان بطريقة تتجاوز، أحياناً، حدود الشأن الشعري دون أن يتنازل عن الفاظه الشعرية المتصلة بتجربته الذاتية، وهذا ما يفسر لنا، أيضاً، تلك الإشارة النقدية الموازية للغته المتاحة والمستعصية، لنتأمل هذه النصوص: (خسارات: صرت أنفق أوقات الفراغ، ارتب الخسارات حسب مواعيد تكاثرها) (أحياناً: احياناً عندي رغبة فادحة أن أقول لا بألف أطول مني وأحذف النون والعين والميم من أبجدية أخطائي) (ذهب مع الريح: إلى محمد الماغوط/لا نعرف ماذا نفعل بهذا العدد الباهظ من الأوطان؟) (الغياب: ولم يبق لي سوى ظلٍ أتوكأ عليه للوصول اليك أيها الواقف فوق الظل) .
لا يختلف النص الشعري الذي يكتبه الشاعر عن التجربة الذاتية، ليس لأن النص يتطلب، أحياناً، مفارقة التجربة تفادياً لتكرار التجربة نفسها أو نسخها، لأن مبرر الكتابة، المتصل بالتجربة، لديه هو جماليات التجديد والمغايرة، بمعنى أن يقترح شكلاً مختلفاً، ليس للتجربة فحسب بل للحياة، خصوصاً حين يكون النص مكتوباً في سياق لغوي لا يتقاطع مع طبيعة التجربة الذاتية المنبثقة من إحساس الشاعر العميق بانه هو والتجربة صنوان، ويمكننا أن نقول أيضاً، التجربة تكشف عن شاعر متجدد يواصل نقل المعنى من أقصى اللغة إلى شفير الدلالة، ومن الكابوس إلى الحلم، الواقع إلى الخيال وبالعكس وهكذا تتدفق الالفاظ وتتجدد، وتتحرك المخيلة باتجاه عوالم شعرية ولغوية وجمالية متعددة وهنا استعين بما قاله غاستون باشلار: (حين نطالع العالم بألف نافذة من نوافذ الخيال، فإن العالم يصبح في حالة تحول دائم) ويمكننا أن نضيف إلى ما قلناه سلفاً، يسعى الشاعر في تجربته إلى وضعها في سياقه الذاتي والفني والمعرفي، لنقرأ: (دعوة: اكتب نفسك حتى الثمالة) (نداءات: أيها الشبيه، كيف ضيعتني على مقربة من سواي) (امتحان الحضور: كان عليّ أن أمسك هذا العالم من أذنيه وأحاصره بعلامتين فارقتين) .