استقالة عبد المهدي لن توقف الانتفاضة العراقية المقبلة

استقالة عبد المهدي لن توقف الانتفاضة العراقية المقبلة
آخر تحديث:

بقلم:باتريك كوبيرن

حقق المتظاهرون في العراق أول نجاح كبير لهم بإجبار رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي على الاستقالة، بعد مقتل 45 متظاهراً غير مسلحين على أيدي قوات الأمن العراقية في يوم واحد.

ومع انتشار خبر الاستقالة، حلّت أصوات الألعاب النارية الاحتفالية محل أزيز الرصاص في ميدان التحرير ببغداد، مركز التظاهرات منذ انطلاقها قبل شهرين.يعدُّ الرحيل الوشيك لعبد المهدي انتصاراً رمزياً للاحتجاجات، لكن وبسبب مقتل كثير من الناس لن يكون ذلك كافياً لإخماد ما يشبه انتفاضة شعبية من قِبل المكوّن الشيعي، لقد أثبت أنه زعيم غير مؤثر، وربما تكون النخبة الحاكمة بأكملها في العراق فاسدة للغاية ومصممة جداً على التمسّك بالسلطة بدلا من إجراء الإصلاحات الجذرية التي طالب بها المتظاهرون.لقد جاء إعلان تنحي رئيس الوزراء بعد 36 ساعة من تحوّل قوات الأمن من قتل الأفراد المتظاهرين إلى ارتكاب مذابح على نطاق أوسع، فقد قُتل نحو 50 شخصاً بالرصاص على جسر في مدينة الناصرية جنوب البلاد، ما رفع عدد القتلى إلى 408، إضافة إلى آلاف الجرحى منذ الأول من أكتوبر (تشرين الأول).

وبالمناسبة، تجدر مقارنة قائمة الضحايا المروعة هذه على مدى ثمانية أسابيع مع قائمة ضحايا هونغ كونغ، إذ قُتل متظاهرٌ واحدُ وتوفى آخر عرضياً منذ بدء الاحتجاجات قبل ستة أشهر، كما تجدر مقارنة الدعاية الواسعة والتعاطف الذي تحظى به احتجاجات هونغ كونغ مع الاهتمام المحدود بالقمع الحكومي الوحشي وغير المسبوق في العراق.ربما اعتاد العالم على مقتل العراقيين بأعداد كبيرة، سواء أكان ذلك من قِبل داعش أو صدام حسين أو القوات الجوية الأميركية، لذلك لم يعد القتل بالعراق يعدّ خبراً مهماً.غير أن المجازر غير المبلغ عنها هي التي تصنع التاريخ، “إنها تزرع الكراهية في القلوب”، كما قال فلسطينيٌ ذات مرة عن مجزرة ارتكبها جنود إسرائيليون قبل عقد من الزمان في غزة وقتل فيها عمّه.

يُنظر إلى العنف على أنه يؤثر فقط في العراقيين، لكن يمكنه إعادة تشكيل المشهد السياسي في الشرق الأوسط ككل. فمنذ الثورة الإيرانية عام 1979، كانت القوة المتزايدة للمكونات الشيعية تحت القيادة الإيرانية إحدى أشد القوى السياسية والعسكرية تأثيراً بالمنطقة.وعلى مدار الأربعين عاماً الماضية، غلب هذا التحالف وتفوق في المناورة على أعدائه مثل الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية في لبنان وسوريا واليمن، وقبل كل شيء في العراق.يكتسي التحالف بين العراق وإيران أهمية بالغة، لأن ثلثي سكان العراق البالغ عددهم 38 مليون نسمة هم من الشيعة، كما أن لدى العراق حدود بطول 900 ميل مع إيران، ومنذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، هيمن المكون الشيعي على العراق، وتصرف عادةً في انسجام مع إيران.

ويختلف الشيعة العراقيون في كثيرٍ من النواحي عن الشيعة الإيرانيين، لكن كانوا ينظرون إليهم حتى وقت قريب حليفاً أساسياً في الصراع مع داعش، وتقع أقدس المزارات الشيعية في مدينتي النجف وكربلاء العراقيتين إلى حيث يحج ملايين الإيرانيين كل عام.لكن، في الشهرين الأخيرين ظهر شرخٌ في هذا التحالف الشيعي المنتصر بقيادة إيران، وذلك مع قيام الأقسام الموالية لإيران في أجهزة الأمن العراقية والتنظيمات شبه العسكرية بإطلاق النار بشكل متكرر، وقتل الشيعة المحتجين على نقص الوظائف، والخدمات الاجتماعية غير اللائقة والفساد المتفشي بين جزء من النخبة الحاكمة في العراق.

وانتشرت الاحتجاجات في البداية على نطاق محدود، ولم تكتس زخماً إلا بعد مبالغة الحكومة في الرد على ما كان في البداية تهديداً بسيطاً للغاية.ومنذ البداية، لم يكن هناك مسعى حقيقي لإخفاء دور إيران في تدبير القمع، فقد ظهرت تقارير في مرحلة مبكرة تفيد بأن الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الذراع الخارجية للحرس الثوري في إيران، قرر أن الاحتجاجات كانت جزءاً من مؤامرة أجنبية، وأن أفضل طريقة للتعامل معها هو عن طريق “وابل من الرصاص”.اعتقد العديد من الجنرالات نفس الشيء على مر التاريخ، ومن خلال القمع العنيف والفاشل مع ذلك، حوّلوا أشكال التعبير المحدود عن السخط إلى ثورات مفتوحة، وفي الحالة العراقية، أصبح المتظاهرون مناهضين لإيران بشدة.

قد تكون نتيجة المحاولات غير المجدية وذات الأثر العكسي التي قامت بها القوات الموالية لإيران في العراق لسحق الاحتجاجات هي بداية تغيير كبير في المشهد السياسي بالشرق الأوسط، قد يكون التحالف المنتصر سابقاً بين الشيعة الإيرانيين والعراقيين، وهو التحالف الذي تفوّق على الولايات المتحدة وحلفائها، قد انهار بشكل لا رجعة فيه.إن ما فعله الإيرانيون وحلفاؤهم العراقيون بنجاح من قطع للصلة بين البلدين في الأسابيع الثمانية الماضية يفوق ما أخفقت واشنطن والرياض في القيام به خلال سنوات من المحاولة.لكن، لماذا بالغت إيران في رد فعلها؟ لم تحقق سياسة الرئيس “ترمب” المتمثلة في “الضغط الأقصى” على إيران نجاحاً كبيراً، لكنها جعلت القيادة الإيرانية التي كانت دائماً تشعر بجنون الارتياب وتميل إلى نظريات المؤامرة، متوترة ومستعدة للمبالغة في الرد على أي شيء تراه تهديداً.

ومن المفارقات أن هذا الشعور بالضعف من جانب إيران مرتبط بإحساس الغطرسة الناتج عن انتصاراتها المتكررة في الحروب بالوكالة في المنطقة.لكن، هذه النجاحات أنتجت نقطة ضعف جديدة في التحالف الشيعي الذي تقوده إيران، فقد اكتسب هذا التحالف مصلحة في الحفاظ على الوضع السياسي الراهن في لبنان والعراق وسوريا، مهما كان هذا الوضع ظالماً وفاسداً وفاقدا الأهلية.في العراق، على سبيل المثال ربما كانت الطبقة الحاكمة ذات الغالبية الشيعية تُشكل معارضة بطلة ضد صدام حسين، لكنها تحوَّلت منذ زمن بعيد إلى حكومة لصوص معطّلة ومعادية الإصلاح.لطالما كان رد زعماء الشيعة على انتقادات فشلهم في إدارة البلاد بالدعوة إلى التضامن المجتمعي ضد التهديدات الوجودية التي تصدر من تنظيمات مثل القاعدة، غير أن هذا التبرير لم يعد مقنعاً في السنوات القليلة الماضية بعد هزيمة داعش.

وقد تعمّق الاستياء في العراق بشكل خاص، لأن كثيراً من سكانه الشيعة، بالنظر إلى أن السنة والأكراد ظلوا بعيدين عن ذلك، يتساءلون عن سبب عجزهم عن إيجاد فرص للعمل والمياه والكهرباء في بلد يكسب 7 مليارات دولار شهرياً من صادرات النفط.من غير المرجّح أن يؤدي رحيل عادل عبد المهدي كرئيس للوزراء إلى نزع فتيل الاحتجاجات، لأن الدولة العراقية ربما غير قادرة على إصلاح نفسها. إن البديل بالنسبة إليها هو القمع الشامل، ومحاولة القضاء على المعارضة من خلال قتل أو اعتقال المتظاهرين.

لكن، هذا الخيار فشل حتى الآن، لأن المحتجين أبدوا عزماً بطولياً في الاستمرار بالتظاهر، على الرغم من قتلهم ودون أن يحملوا السلاح هم أنفسهم، رغم أن معظم العائلات العراقية تمتلك سلاحاً واحداً أو أكثر.ربما رأى المتظاهرون أن عسكرة الأزمة ستكون في مصلحة الحكومة التي ستتخذها ذريعة للجوء للقوة المميتة، لكن هذا النوع من ضبط النفس لن يستمر إلى الأبد، لأن عدد الوفيات أصبح بالفعل كبيراً لحد “زرع الكراهية في قلوب” عديد من العراقيين، وهي كراهية لن تختفي.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *