الملايين من الإيرانيين تدفقوا عبر الحدود مع العراق في اجتياح سنوي متكرر غاياته أبعد من مجرد أداء مراسم دينية ومذهبية. السياسة في العراق تجبّ السيادة، لأن الحدود في الدساتير والقوانين الدولية تخضع لإجراءات دونها الفوضى، خاصة في أجواء أمنية متدهورة كالتي تحصل في العراق.
غايات السياسة بلغت مقاصدها من الزيارات بطابعها الطائفي، رغم تكاليفها ومخاطرها على حشود من البشر من عراقيين وإيرانيين وجنسيات مختلفة. زيارات بمثابة استفتاء على تفرد كتلة طائفية بمصير العراق ومستقبله وأيضاً على نوع العلاقة بين إيران والعراق التي لامست سقف الوحدة الاندماجية.
استخدام المجاميع لأغراض السياسة هو ترويج للكتلة الطائفية الأكبر لمرحلة ما بعد داعش وبعد ما جرى من ترويع للأكراد وانقضاض على استفتاء الإقليم وطموحات الانفصال عن عراق طائفي تابع لولاية الفقيه الإيراني.
تفرّد الأحزاب الدينية الميليشياوية مرّ أولا فوق جثث البسطاء من تلك الحشود المليونية فوق جسر الأئمة الرابط بين الأعظمية والكاظمية، وسبق أن عبروا فوق جثث النساء والأطفال والرضع في مجزرة “الزركة” في النجف، وفعلوها دون مبالاة في سيارات سباقهم لمكاسبهم السياسية والانتخابية والمالية التي تفجرت بالأبرياء في بغداد والمدن الأخرى.
سنوات من تخادم الإرهاب والمتاجرة بدماء الناس وتدمير المدن كقرابين لمشروع اكتملت فصوله.
هذا الخراب يتمدد على مساحة الهجمات الإرهابية في العالم وتتكشف أسراره باستمرار، بالوثائق والتعاون والتخادم بين إرهاب نظام الملالي وبين التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود
فلماذا الاستحياء السيادي لحكومة حزب الدعوة الذي دعاها إلى التصريح بمنح تأشيرات دخول مليونية للإيرانيين. بحساب بسيط كم تستغرق هذه الإجراءات من وقت لتحقيق دخول منتسبيهم المنظم؟ لماذا هذه الأكاذيب الساذجة؟
ومن ذاكرة الثورة الشعبية السورية في العام 2011 وقبل تدنيسها ببرامج الإرهاب، كان العراق حذرا من المساءلة الدولية كونه ممرا ومعبرا للأسلحة والذخائر والميليشيات والمؤن وقادة الحرس الثوري، بل وبالأموال للنظام الحاكم في سوريا في دعم إيراني عراقي غير مسبوق.
كانت حكومة نوري المالكي تكذب وتحتال على قرارات دولية وأحيانا تفتش بعض الطائرات في عرض إعلامي لسيادة الدولة على مطاراتها وأمنها في التفاف على إرادة المجتمع الدولي، وما يحدث الآن من تزويد الحوثيين في اليمن بالسلاح والصواريخ الباليستية هو جزء من السياسة الإيرانية أو مهمات قواعدها ومنصاتها في الدول الأخرى.
قادة حزب الدعوة أصبحوا يتفاخرون بدعمهم السابق غير المشروط للنظام الحاكم في سوريا مستذكرين تحملهم أعباء الاحتيال على القرارات والإرادات الأممية.
رئيس وزراء العراق حيدر العبادي القائد العام للقوات المسلحة، عندما كان يرفع علم العراق في مدينة القائم الحدودية بعد تحريرها من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، كان هناك من يرفع علم تنظيم الدولة الإسلامية الإيرانية فوق أعلى بناية للاتصالات في مدينة داقوق التابعة لمحافظة كركوك.
وصلنا إلى خط سير مختلف في العراق، الاهتزاز الكردي الذي تجرّأ عليه مسعود البارزاني بقرار الاستفتاء على الانفصال عن المشروع الإيراني، هو صرخة بوجه الهيمنة الإيرانية المعلنة على سيادة العراق وقراره وشعبه. إنه استفتاء على رفض إطالة أمد الإذعان للميليشيات وسلطة الحرس الثوري بعناوينه وقادته.
نختلف في موقفنا من انفصال أي جزء عن العراق ونتمسك بوحدته وأيضا بحق الأكراد في حياة حرة كريمة رغم مآخذنا على تاريخ الحركة الكردية وعلاقتها مع نظام الملالي؛ لكن الاستفتاء كان إعلان شرف بالاستقالة من الإرهاب الإيراني في العراق.
حكومة شراكة ودولة شراكة ومواثيق شراكة واتفاقات شراكة، ثم ماذا؟ عراق بطيف طائفي سياسي واحد لوطن وشعب واحد لكنه غير موحد، فالعراق اختفى تحت أنظارنا غارقا في رايات العنصرية الطائفية ومكر الملالي.
المشروع الإيراني يدرك أن حربا على الإرهاب تطاله، وأن ميليشيات حزب الله في لبنان وميليشيات الحوثي في اليمن والحشد الشعبي في العراق والميليشيات الطائفية من خارج الحدود في سوريا هي في مقدمة من تستهدفهم تلك الحرب
لبنان العربي بماذا يختلف عن العراق في ردة فعله على فرض الهيمنة والوصاية الإيرانية؟ لبنان مازال يقاوم لعدم فقدان ذاكرته العربية، ولبنان لديه الإمكانيات والشخصيات الفاعلة لإيقاف التمدد الكامل للحرس الثوري على القرار اللبناني.
استقالة الرئيس سعد الحريري تأتي في هذا السياق. العراق واقعيا تحقق المطلوب منه إيرانيا، وما مثالنا عن الاستفتاء الكردي إلا غيابا للعراق العربي.
بوصلة العراق ولبنان واليمن وأيضا سوريا تؤشر لتوحد المواقف في محاربة المشروع الإيراني وإن اختلفت الظروف ونوع المواجهات والمجابهات، لكنها تتفق على اليأس من الإصلاح وفقدان الأمل بإقامة علاقات طبيعية بينها وبين إيران.
أسرف العرب على أنفسهم عندما تحملوا طويلاً تبعات التسويف والمراوغة بحجة عقد الشراكة كما في العراق أو التسوية في لبنان التي تعرف بإعلان قصر بعبدا وهي مبادئ أساسية لتحييد لبنان والنأي به عن الصراعات. العروبة في لبنان منصوص عليها في الدستور ولنا أن نتخيل عدم وجود نص دستوري يؤكد عروبة العراق.
قال الرئيس سعد الحريري في خطاب استقالته: أينما حلت إيران حلت الفتن وحل الخراب.
هذا الخراب يتمدد على مساحة الهجمات الإرهابية في العالم وتتكشف أسراره باستمرار، بالوثائق والتعاون والتخادم بين إرهاب نظام الملالي وبين التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود.
ثبت باليقين أن عددا كبيرا من التفجيرات النوعية في العراق قامت بها الميليشيات المدعومة من إيران لتكون سببا للتدخل الإيراني بحجة حماية المراقد أو حماية العديد من المدن بتبرير عائديتها المذهبية أو تدمير مدن أخرى لأغراض التغيير الديمغرافي الممنهج والتي سقطت معها ثقة العراقيين بالتعايش والسلم الأهلي.
المشروع الإيراني يدرك أن حربا على الإرهاب تطاله، وأن ميليشيات حزب الله في لبنان وميليشيات الحوثي في اليمن والحشد الشعبي في العراق والميليشيات الطائفية من خارج الحدود في سوريا هي في مقدمة من تستهدفهم تلك الحرب.
تحاول إيران في سوريا إيجاد بديل من الداخل السوري بتشكيل اللواء 313 في درعا، أي أن النظام الإيراني يتوقع سحب الميليشيات الطائفية على اختلاف مصادرها من سوريا ضمن التوافقات الدولية المقبلة، لذلك يسعى إلى تشكيل اللواء المذكور لتكتمل لدى الحرس الثوري ألويته المكونة من أبناء الدول التي يجاهر باحتلال عواصمها.
لكن الكيل طفح وخطاب استقالة الحريري هو خطوة صادمة للإرهاب الإيراني على سطح الجنون والسُعار الفارسي المذهبي تجاه لبنان والعرب.
أما لماذا على السطح؟ فلأننا نعض على جراحنا كي لا نقول ما يخدش كبرياء أهلنا وشعوبنا وأمتنا، لذلك نتوقف عن حدود الحد الأدنى من اللياقة الذي يستحيل علينا أن نتجاوزه.
لم يعد بالإمكان التعايش مع المشروع الإيراني. إنها خلاصة ارتدادات خطاب الاستقالة على الواقع العربي. الخطاب إعلان براءة من ملاحق جرائم السياسة والاقتصاد والحروب وويلاتها على أمتنا. الخطاب أيضاً إعلان مواجهة وتحريض على كلمة نبدأ بها عملياً مقاومة الهيمنة والإرهاب والاستكبار الإيراني.