آخر تحديث:
بقلم :د. ماجد السامرائي
يبدو أن قيادة مسعود البارزاني قد وضعت مخططا مدروسا بعناية لخطوات استقلال الأكراد عن العراق. تأكد ذلك بتصريحات لمسؤول الملف هوشيار زيباري، وكذلك رئيسه مسعود البارزاني، يفهم من خلال ذلك أن القيادة الكردية غير متشنّجة ومنفعلة لردود الأفعال الداخلية الكردية والعراقية والإقليمية (تركيا وإيران) والدولية (أميركا)، ولهذا كانت الخطوة الأولى هي الذهاب إلى بغداد من أجل الحوار مع المسؤولين هناك حول الملفات المعقّدة بين بغداد وأربيل، وليس من أجل العودة إلى الوراء بانتظار الوعود التي لم تعد، حسب رأي القيادة الكردية، صالحة في ظل الذهاب إلى الخطوة الأولى وهي الاستفتاء.
في مراجعة سريعة لتصريحات المسؤولين في بغداد أو الأكراد ماذا يمكن الاستنتاج من خلال ذلك، وهل نجحت الخطوة كرديا فيما أذعنت بغداد الرسمية والحزبية؟
بعيدا عن انفعالات بعض البرلمانيين من الأحزاب الشيعية في بغداد ضد مشروع مسعود البارزاني، وسبل التصدي له لدرجة التلويح بمنع الواقع الكردي الجديد “بالدم”، ردا على مقولة البارزاني “حدود الدم”، لا بد من تقويم سريع لمسألة خطوات الاستفتاء والمعطيات السياسية لما بعد داعش وربطها بردود الفعل المحلية والإقليمية، والسيناريوهات المحتملة.
يلاحظ المتابع أن هناك إرباكا وغموضا لدى القيادات السياسية الحاكمة في بغداد، مقابل وضوح الموقف والكلمة الواحدة لدى الوفد الكردي الزائر لبغداد، ما عدا موقف كتلة التغيير الكردية المعروفة بخلافها مع البارزاني.
ففيما نلاحظ رفضا قطعيا من قبل العرب السنة المشاركين في العملية السياسية ببغداد، وصمتا عند السياسيين العرب المعارضين والمقيمين عند ضيافة البارزاني، ورفضا لدى عرب كركوك، نجد القيادات الشيعية تحدثت بصور مختلفة ومشتّتة رغم لغة المهادنة وعدم التعصّب في التصريحات الأخيرة، وهذه أولى نقاط النجاح لدى الوفد الكردي. فقد التقى الوفد برئيس الحكومة حيدر العبادي الذي اختار لغة سلسلة فيها دعوة إلى الحوار وحل المشاكل، علما وأن الوفد الكردي هو الذي جاء حاملا راية الحوار الهادئ لكن لديه قرار بالذهاب إلى الاستفتاء، وسبق للبارزاني أن صرّح لصحيفة الغارديان الفرنسية بأنهم “لا يحتاجون إلى نيل رخصة من الحكومة الاتحادية لإجراء استفتاء الإقليم عن العراق وأن إعلان الدولة الكردية قد آن أوانه”. ولاحظنا أن جميع القادة والمسؤولين قد اتفقوا على موقف واحد هو طلب “العودة إلى الدستور” ولا يعرف المتلقي لهذا الموقف ما هو المقصود بالعودة إلى الدستور في قضية الاستفتاء، وهل المقصود المادة 140 الداعية إلى تطبيع الأوضاع في كركوك والمناطق المتنازع عليها، وكانت تلك المادة مكسبا كرديا مبكّرا حصلت عليه القيادة الكردية حين كانت كلمتها هي العالية عند الأميركان.
بالعودة إلى المادة المذكورة، فإن العملية تتطلب مراحل متكاملة ومتداخلة: أولها التطبيع وإعادة المرحّلين وتعويضهم. وثانيتها الإحصاء السكاني وكان إحصاء عام 1957 قد أكد أغلبية التركمان في مدينة كركوك، لكن تغييرات ديموغرافية حصلت أدّت إلى زيادة نسبة العرب حتّى الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. وبسبب تعدد مراكز القرار في بغداد لاحظنا تعدد المواقف وتناقضها وتركيزها على موضوع الدستور مما يزيد المسألة غموضا.
فقد صرّح وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري داعما لرأي نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي بأنه يمكن العودة إلى الدستور وتعديله بما يحل المشكلة بين بغداد وأربيل. كما صرح بعض القادة الشيعة الذين التقاهم الوفد بأنهم لم يناقشوا موضوع الاستفتاء وإنما ملفات متعددة. بعض مراكز القرار لديها استنتاجات وتحليلات لموقف القيادة الكردية منها. إن مسعود البارزاني يحاول الضغط للحصول على مكتسبات مرحلية تخدم قيادته، وإنه غير قادر على الذهاب إلى الاستفتاء والاستقلال، وهو يعاني من مشكلات محلية كردية بينها ما هو اقتصادي خانق، وهذا الشعور سبّبته إيحاءات ملتبسة محلية وإقليمية إيرانية تركية ودولية أميركية وكان الأجدر بالمسؤولين في بغداد تشكيل وفد تفاوضي حزبي ورسمي واحد، طالما أن الأحزاب الشيعية هي الحاكمة وتدير حوارا مبنيا على قواعد مستندة على رؤية استراتيجية واضحة، وأن يقولوا للوفد الكردي نحن ضد الاستفتاء أم نحن معه.
كسب الوفد الكردي التفاوضي الجولة الأولى من مشروعه، وهي انتزاع عدم ممانعة بغداد على الاستفتاء، ولكن ضمن أطر دستورية، مع أن حكاية الدستور تثير الكثير من الهواجس والملابسات والتداعيات، فلماذا لا تطلب ولا تتعهد تلك القيادات بضرورة العودة والعمل على تعديل الدستور الذي ترك مسألة “النظام السياسي” عائمة ما بين الحكم الطائفي السياسي وبين النظام المدني، كما اختزل هذا الدستور سبب الأزمات في العرب السنة وحوّلهم إلى دواعش، وإلى طبقة مهمشة محكومة بقوانين وإجراءات طارئة مضى عليها أربعة عشر عاما وخلّفت ما خلفته من أزمات أكثرها إيلاما لشعب العراق كله، أخطرها ظهور داعش واجتياحه لثلث أراضي العراق.
فلو كان الدستور معافى وسليما ولم يكتب بأياد لئيمة غرضها تفكيك المجتمع العراقي وتقنين الفيدراليات والأقاليم، هل حصل ما يحصل اليوم في العراق؟ ثم هل يعتقد ساسة الحكم في بغداد أن تسويق قصة الدستور سيؤدي إلى رضوخ قيادة البارزاني للطلب وتخليها عن دعوة الاستفتاء وعلى تعديلات دستورية تمنح الأكراد مكاسبهم في كركوك وثروة النفط، وهم يقولون إن سياسات حكومة بغداد لا تنفذ فقرات الدستور والتعهدات، ويعيدون إلى الأذهان صفقات أربيل بقيام حكومة عام 2010 وحكومة 2014؟
الأكراد كسبوا الجولة في بغداد لأنهم يعرفون مع من يتحاورون، وأن الذين يتحاورون معهم هم فرق وأحزاب وكتل متنازعة. وتلك التمنيات بأن الأكراد لن يعبروا الخطوة الأولى في طريق الاستقلال قائمة على أوهام مركبة، معتمدة على رؤى متناقضة، تستند على مواقف سياسية هنا وهناك، أولها ما يتعلق بالأميركان الذين قالوا بضرورة تأجيل الاستفتاء وليس رفضه بسبب حرب داعش، وردّ البارزاني خلال لقائه القائد العسكري الأميركي جوزيف فوتيل أخيرا بأن الاستفتاء لن يؤثر على الحرب على داعش أو على الموقفين التركي والإيراني الرافضين للاستفتاء.
وتم اعتبار زيارة رئيس الأركان الإيراني إلى أنقرة وكأنها استعدادات لمواجهة استفتاء أكراد العراق، وهذا وهم كبير. ويبدو أن الجماعة في بغداد مازالت تعيش بعقلية المعارضة لا عقلية الدولة باعتقاد أيديولوجي يقول إن تركيا ضد استقلال الأكراد خشية على أمنها القومي التركي من أكراد تركيا، مع أنه مرت سنوات طويلة وهناك تنسيق تركي كردي في ميادين تجارية كبيرة، وتركيا ستتقبل الوضع الكردي المقبل حين يضمن مصالحها الوطنية.
أما إيران فقصتها مختلفة لأنها تسوّق استراتيجيتها على معطيات مذهبية أيديولوجية وعلى ما حصلت عليه من نفوذ، فهي تحاول تقسيم الجغرافيا العراقية على أساس طائفي. فتنظر لكركوك مثلا باعتبار ما تحتويه من التركمان الشيعة، أو هل ستؤثر الدولة الكردية المقبلة على أطراف حدودها المذهبية بين بغداد وطهران. هم يخشون من أن تكون الدولة الكردية سنية ذات هوى يتعاطى مع الوضع العربي، وعلاقات البارزاني بالسعودية والأردن والخليج تثير مثل هذه الهواجس الاستراتيجية الإيرانية، والخشية مما ستكون عليه تلك الدولة من سياسات تؤثر على مصالحها وليسوا ضد قيام تلك الدولة.
ولهذا فهي (إيران) مثلا تدعم جماعة الاتحاد الوطني بقيادة جلال الطالباني لأنها متوافقة مع سياساتها، ولديهما معها مصالح عميقة تتماشى مع وضع نظام الحكم القائم في بغداد. الإيرانيون مختلفون مع نوع الزعامة الكردية بقيادة مسعود البارزاني لأنه يتناقض مع مصالحهم في العراق والمنطقة رغم أنه يرتبط مع إيران بعلاقات قديمة.
ولنعد إلى مشروع الاستفتاء الكردي على الاستقلال الذي بدأ بالرحلة إلى بغداد، فخطواته تسير وفق استراتيجية سلسلة مع بغداد ومع العالم مفادها تركيز الحديث حول الاستفتاء كحق كردي والابتعاد عن التخويف بقصة الاستقلال، وقد نجحوا بها في الجولة الأولى خلال زيارتهم لبغداد، فهل يستطيع أحد أن يعطينا تفسيرا لاستفتاء لا يقود إلى الاستقلال؟
نحن بحاجة إلى قيادة سياسية عراقية قوية ومتماسكة وذات إرادة عراقية تتمكن من التصدي للمشاكل الوطنية وفي مقدمتها المشكلة الكردية التي لا تحلها الاجتهادات الحزبية الخاصة، وعلى القيادات الحزبية الحاكمة أن تتعاطى مع هذه الأزمة بعودتها إلى الجمهور العراقي، وإن كانت القضية تعود إلى خلل دستوري جاء بسبب تحالفات مؤقتة عشية نهاية النظام السابق، فلا بد من الدخول في مشروع تعديل جوهري في هذا الدستور من خلال لجنة وطنية عليا مستقلة، وعدم التعلّل بالظروف الطارئة. اليوم هناك متغيّرات محلية ودولية تتطلب إرادة وطنية مستقلة تترجم عبر قرارات المصالح العليا للبلد، وهذه واحدة من الأزمات الكبرى التي لا تحلها التكتيكات والمناورات وصفقات المصالح الضيّقة.