الأنبار: تنازع المسجد والعشيرة… ووضع غامض لـ«داعش» بقلم مشرق عباس

الأنبار: تنازع المسجد والعشيرة… ووضع غامض لـ«داعش» بقلم مشرق عباس
آخر تحديث:
 نقلا عن جريدة الحياة ..«داعش» ام «عشائر»؟ بدا هذا السؤال وكأنه بلا اجابة طوال اكثر من اسبوع على اندلاع المواجهات العسكرية في الأنبار، والتي أعقبت اقتحام قوات حكومية خيم المعتصمين على الطريق الدولي الرابط بين بغداد وعمان ودمشق، واعتقال النائب احمد العلواني.
الحيرة التي انتشرت حول توصيف المسلحين الذين رفعوا السلاح في وجه القوات الحكومية العراقية، واحتلوا المؤسسات الرسمية، يبررها ظهور غير مسبوق لأرتال مسلحين يرفعون راية تنظيم القاعدة، يقودهم القيادي الميداني في تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام – داعش» شاكر وهيب.
والحيرة ذاتها تضاعفت عندما اعلن محافظ الأنبار احمد خلف الدليمي وزعيم تنظيم «الصحوة» الشيخ احمد ابو ريشة ان «داعش» غزت مدن الأنبار وأبرزها الرمادي والفلوجة، وأن العشائر ستقاتل التنظيم بمساعدة القوات الحكومية، في مقابل إعلان زعماء عشائر ابرزهم أمير عشائر الدليم علي الحاتم السليمان ورجال دين مثل مفتي العراق رافع الرفاعي، ورجل الدين البارز عبدالملك السعدي رفع السلاح في وجه الحكومة، ونفي وجود «داعش» في الأنبار واعتبارها «خدعة يراد بها تقويض ثورة العشائر».
الاحداث الميدانية أيضاً كانت غامضة وملتبسة، فلم يُفهم على وجه الدقة كيف تسرب مقاتلو القاعدة بهذه السرعة الى الأنبار، وهل ما زالوا هناك خصوصاً في مدينة الفلوجة ام لا؟ وفي حال كانت القاعدة سيطرت بالفعل على الأنبار، فلماذا تضطر الى إخفاء وجودها سريعاً؟ لماذا انتشرت «الصحوة» في الرمادي «عاصمة الأنبار» وفشلت في دخول الفلوجة؟ ولماذا تحتكر الفلوجة في الاساس المواجهات العسكرية الكبيرة، كما حصل في معركتي عام 2004؟
بوادر نهاية الازمة لم تكن اقل غموضاً من بدايتها، فابتداء من صباح يوم الاربعاء المنصرم، كانت الفلوجة خالية من المظاهر المسلحة في شكل كامل. وفي مساء اليوم نفسه، اعلن عبر مساجد المدينة عن اتفاق يقضي برفع فتيل الازمة وإعادة الحياة الطبيعية الى المدينة بامتناع الجيش من دخولها. وانطلقت العيارات النارية ابتهاجاً بهذا الاتفاق.
سيناريو الأيام الحرجة
توقيت ازمة الأنبار اقترن بمتغيرات داخلية وخارجية بالغة الدلالة، وبدت الازمة برمتها وبتفسيرات اطرافها استجابة لهذه المتغيرات.
فمن وجهة نظر زعماء الأنبار، كانت الازمة مفتعلة من رئيس الحكومة العراقي نوري المالكي لإقناع الشارع الشيعي بقوته، لتولي ولاية حكومية ثالثة. ومن وجهة نظر المالكي نفسه، فإن حكومته استبقت عبر هذه الأزمة إعلان الأنبار «دولة» ومنعت حدوث ذلك، وقد شكل هذه القناعة، كما قال خلال خطاب مسجل، بناء على اعترافات احد المعتقلين.
بالطبع، تبادلت الاطراف الاتهامات بالعمالة للخارج. فالازمة وفق الأنباريين تمت بناء على رغبة ايرانية، وتم وصف الجيش العراقي احياناً بأنه «الجيش الصفوي» وأحياناً اخرى «جيش المالكي»، فيما استمر المالكي وأنصاره يكيلون الاتهامات للمسلحين في الأنبار بأنهم «داعش» وأنهم يتحركون وفق اجندة خليجية.
في كل الاحوال، اضطرابات الأنبار ترافقت مع متغيرات اقليمية ودولية لا يمكن اهمالها، فهي من جهة اقترنت باتفاق اميركي – ايراني ستستمر بنوده غامضة الى إشعار آخر، ومن جهة اخرى حدث متغير مثير على الساحة السورية بانقلاب الفصائل المسلحة المعارضة ومنها «جبهة النصرة» التي تدين بالبيعة لزعيم القاعدة ايمن الظواهري على تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام – داعش» الذي يتزعمه ابو بكر البغدادي، وبالفعل شهدت «داعش» تقهقراً غير متوقع في الساحة السورية، فتح الباب لتأويلات، منها ان خط الاضطرابات الذي امتد من الأنبار الى حلب وصولاً الى بيروت، يندرج ضمن تسويات «جنيف 2».
وزير العدل العراقي حسن الشمري كان فجّر سيناريوات «المؤامرة» الى اقصاها عندما اعلن في تصريحات متلفزة ان هروب عشرات المعتقلين من سجن «ابو غريب» ومعظمهم من قيادات «القاعدة» كان «مدبراً» بمعرفة «مسؤولين عراقيين كبار» وأن هدفه هو اقناع واشنطن بالتخلي عن خططها لضرب نظام الرئيس السوري بشار الأسد، عبر تعظيم دور «داعش».
وفتحت ازمة الأنبار للمرة الاولى باب تأويلات عن وضع «داعش» داخل العراق، وظهرت كذلك اجابات عن التأثيرات المهمة لانشقاق البغدادي عن الظواهري في سورية، في العراق، عبر مسلحين ينتمون الى «تنظيم القاعدة»، لكنهم لا يدينون بالبيعة الى «البغدادي» وإنما للظواهري نفسه وعبره الى زعيم غير معروف إعلامياً حتى اليوم عيّنه الظواهري أميراً على جناح القاعدة في العراق في معزل عن البغدادي.
 خريطة من المسلحين
في منتصف عام 2013 وكرد فعل على مجزرة «الحويجة» التي تسبب بها اقتحام القوات الحكومية لساحة اعتصام المدينة، ظهر للمرة الاولى مصطلح «جيش العشائر»، لكن سرعان ما تم التراجع عن الفكرة، والاستمرار في الاعتصامات.
لكن مع اندلاع المواجهة بين الأنبار والحكومة العراقية نهاية العام نفسه، كان مشهد سيطرة آلاف المسلحين على مدن الفلوجة خلال ساعات، يشير بالفعل الى ان عشائر المدينة كانت تستعد مسبقاً لاحتمال المواجهة العسكرية.
 وعلى رغم الضخ الاعلامي في تصوير ما حدث في الأنبار بأنه «احتلال تنظيم داعش للمدينة»، فإن الاحداث على الارض كانت تشير على الدوام الى ان قرار الأنبار لم يكن في يد «داعش» وإنما في يد رجال الدين وزعماء العشائر، ويستجيب إليهم عشرات الآلاف من المسلحين، بعضهم ينتمون الى العشائر نفسها، وآخرون ينخرطون في مجموعات مسلحة تبين انها مستمرة على المستوى التنظيمي مثل «الجيش الاسلامي» و«حماس العراق» و «كتائب ثورة العشرين» و«جيش المجاهدين» و «انصار السنّة» وغيرها، اضافة الى مسلحي الصحوات، وعناصر امن الفلوجة نفسهم المنخرطين في سلك الشرطة من مرجعيات عشائرية او من مجموعات «الصحوة» او حتى من مجموعات مسلحة قاتلت القوات الاميركية.
الدخول الاستعراضي لـ «داعش» بقيادة شاكر وهيب، كان اعقب سقوط الأنبار فعلياً في يد المسلحين بنحو 48 ساعة، وكان هذا الدخول كفيلاً بتغيير سيناريوات الازمة برمّتها.
فعشائر البو فهد والبو ريشة وأجزاء من عشيرة البوعلوان التي تشكل عصب «تنظيمات الصحوة» في الرمادي ثارت في شكل مباشر ضد «داعش» وخاضت معها معارك دامية، وكانت عشائر اخرى في الرمادي ايضاً تقاتل القوات الحكومية في أحياء الملعب والضباط وشارع عشرين وغيرها.
تداخل الخنادق بين العشائر والقوات الحكومية و «داعش» كشف عن معركة بثلاثة اطراف يبدو انها تقاتل بعضها بعضاً، لكنها انتهت سريعاً بانسحاب العشرات من مقاتلي «داعش» باتجاه الفلوجة التي تركزت الازمة فيها.
والفلوجة التي تمتلك ارثاً من المواجهات العسكرية مع الجيش الاميركي، كانت كما يبدو تستعد لإعادة انتاج معركتي 2004 مع الجيش الاميركي وتنظم نفسها لمواجهة عسكرية طويلة الامد، وتستخدم الاستراتيجيات نفسها التي استُخدمت سابقاً عبر إضعاف القوة البرية المهاجمة بغارات مستمرة وقطع لطرق الإمداد العسكري لا يبدأ من الطريق الدولي الرابط بين بغداد وعمان ودمشق، بل يشمل كل حزام بغداد الجغرافي الاكثر توتراً، والذي ظهر ان استجاباته ترتبط بالفلوجة كمرجعية دينية – سياسية اكثر من الرمادي ومدن الأنبار الاخرى.
  الفلوجة… نفوذ المسجد
تستمد مدينة الفلوجة الملتصقة ببغداد (غرباً) قرارها من المسجد، قبل شيخ العشيرة، وذلك الواقع عميق الجذور وكان انتج معارك الفلوجة السابقة، ومنع تكون «مجالس صحوة» ذات مرجعيات عشائرية فيها، وهذا بالضبط ما جعل معركتها اكثر تعقيداً، وما يفسر اختلافها عن الرمادي.
والفلوجة تداخلت فيها في شكل واضح خنادق اهالي المدينة الغاضبين الذين ينتظرون تعليمات المسجد قبل زعماء العشيرة،، ومجموعات مسلحة أعيد انتاجها، اضافة الى تنظيمات القاعدة المختلفة. ومع ان الفلوجة التي تضم عشائر كثيرة مثل البو عيسى والفلاحات والجميلات والبونمر والبو ذياب وشمر، كانت اشتركت في حرب الأنبار ضد القاعدة بين عامي 2006 – 2008، إلا أنها لم تنخرط في مجموعات الصحوة التي تشكلت في الاساس من عشائر البو فهد والبوريشة والبوعلوان في مدينة الرمادي.
المتتبعون لتفاصيل تشكيل «الصحوة» عام 2006 والمواجهات مع تنظيم «القاعدة»، يؤشرون الى ان «الفلوجة» لم تشكل صحوات عشائرية على غرار الرمادي، وإنما انقلبت المجموعات المسلحة الناشطة فيها وأبرزها «حماس العراق» و«الجيش الاسلامي» و «كتائب ثورة العشرين» على تنظيم «القاعدة» وخاضت معه معارك كبيرة كانت الاكثر حسماً في إخراجه من الأنبار، لكن تلك المجموعات تحللت لاحقاً او ذابت في تنظيمات الصحوة والقوى الامنية والمؤسسات السياسية او المدنية.
ويمكن القول ان قرار الفلوجة الاساسي كان طوال الاعوام الماضية يتخذ داخل المسجد لا داخل «مضيف شيخ العشيرة».
وإضافة الى ان قرب المدينة واحتكاكها مع بغداد وتنوع سكانها سمحت بعدم تكون مرجعيات قبلية حاسمة داخلها، فإن دور المسجد لم يسمح للمدينة التي تسمى «مدينة المساجد» بعقد تفاهمات مع القوات الاميركية، على غرار تلك التفاهمات التي أنتجت «الصحوة».
القوة الدينية التي تتبعها العشيرة كانت بدورها سمحت باستقرار اهم رجال الدين السنّة داخلها طوال عقود، ما انتج مدارس دينية، وجمهوراً دينياً – عشائرياً هو من فرض سيطرته على الفلوجة تحت عناوين تكونت سريعاً ابرزها «مجلس ثوار العشائر» و «المجلس العسكري لثوار الفلوجة»، و «شباب العشائر» وكانت مزيجاً من مسلحين غير منظمين من داخل المدينة، ومسلحي العشائر من ضواحيها وأطرافها، اضافة الى مقاتلين في مجموعات مسلحة جمّدت نشاطها العسكري خلال السنوات الماضية.
ومع وجود هذه القوى من المسلحين، انتشر مسلحو «القاعدة» وانقسموا الى قسمين، احدهما يمثل مجموعات تنتمي الى السلفية الجهادية لم تبايع زعيم «دولة العراق الاسلامية» ابو بكر البغدادي بعد اعلانه «الدولة الاسلامية في العراق والشام» وتمرده على زعيم «القاعدة» ايمن الظواهري، وهؤلاء في الغالب تجمعوا من داخل الفلوجة وخارجها، خصوصاً في مناطق محيط بغداد، والقسم الثاني يمثل مقاتلي «داعش» الذين قدمت أرتال منهم من صحراء الأنبار باتجاه مدينة الرمادي وخاضت معارك مع العشائر ثم توجهت الى مدينة الفلوجة وانضمت اليها خلايا نائمة في المنطقة.
المشهد الفارق في الفلوجة حصل يوم الجمعة الماضي، عندما صعد مقاتلون في «داعش» الى منبر صلاة الجمعة وأعلنوا انهم قدموا للدفاع عن اهل المدينة. ووفق المصادر القريبة من الاحداث، فإن المسلحين الذين ينتمون الى «مجلس العشائر» لم يقاتلوا مسلحي «داعش»، لكنهم لم يسمحوا لهم بالبقاء داخل المدينة ايضاً، فتوجهوا الى الحي العسكري في ضواحيها الجنوبية، واستقروا لأيام على امتداد الطريق الدولي الرابط بين بغداد وعمان ودمشق، قبل ان ينتقلوا الى مناطق الكرمة وأبو غريب (شرق) لخوض مواجهات يومية مع القوات العراقية المتمركزة هناك.
وقبل الإعلان عن اتفاق تحقق بين وزير الدفاع العراقي بالوكالة سعدون الدليمي، ووجهاء الفلوجة مساء الاربعاء الماضي، كان مسلحو «داعش» قد اختفوا في شكل كامل من «الفلوجة» وتضاربت الأنباء عن وجهتهم الجديدة.
 سلام هش
في حال نجحت الاتفاقات الاخيرة بين الفلوجة والحكومة العراقية في تخفيف حدة التوتر، فإنها تشير الى قناعة لدى الطرفين باستحالة حسم النزاع عسكرياً. فالقوات الحكومية فوجئت بتنظيم المسلحين في الفلوجة وبقدرتهم على ادارة حرب عصابات لن تتمكن القوى الحكومية من خوضها من دون غطاء جوي، بعد ان خسرت خلال ايام مجموعة من مروحياتها المقاتلة. ورجال الدين في الفلوجة وزعماء عشائرها ادركوا في المقابل ان عدم انجرار عشائر الرمادي التي تفرض نفوذها في غالبية من الأنبار، خصوصاً في البيئة الجغرافية المعقدة الممتدة الى الحدود السورية، الى المواجهة، سيعني ان المعركة الجديدة لن تقود الى اكثر مما قادت اليه معارك 2004، وهي نيل عشائر «الصحوة» جوائر المعركة عبر نفوذ سياسي ومالي فرضته على الأنبار طوال الاعوام السابقة.
«هل كانت الفلوجة مستعدة لمعركة شاملة تتوسع لتشمل كل المدن السنية، وتنتج واقعاً سياسياً جديداً في العراق قد يذهب الى اعلان الاقليم؟».
الاجابة عن هذا السؤال معقدة جداً اذا علمنا ان الجبهة التي قادت معركة الفلوجة الاخيرة والتي يعود ولاؤها الى مرجعيات دينية مثل مرجعية الرفاعي والسعدي، كانت اكثر الاطراف السنية المعارضة لتشكيل الاقليم، فيما القيادات العشائرية والسياسية التي اتخذت موقفاً مغايراً سواء بالتحذير من «غزو داعش» او اعادة تشكيل «الصحوة» مثل الشيخ احمد ابو ريشة، او فتحت مفاوضات سياسية مثل «قائمة متحدون» بزعامة رئيس البرلمان اسامة النجيفي تعد الاكثر حماسة لتشكيل الاقليم السنّي او اقليم الأنبار منذ سنوات.
هذه المفارقة من الصعب ايجاد تفسير واضح لها اليوم، لكنها ستشكل خلال المرحلة المقبلة نموذجاً لفهم الانقسام السنّي – السنّي واستمرار استثمار قيادات سياسية وقبلية سنية في مشروع «قضية سنّة العراق» والتي ستستمر باعتبارها ازمة دائمة.
كمحصلة لنتاج نحو عشرة ايام من التمرد المسلح في الأنبار، يظهر جلياً ان لا حلول يمكن ان تفرضها سلطة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عبر القوة، كما ان الاخير غير قادر على أعتاب انتخابات برلمانية مصيرية على انتاج حلول سياسية تعالج جبالاً من الالتباسات القانونية والسياسية والامنية التي تدفع الى استمرار ازمة المناطق السنية.
الحل الوحيد المتاح لكل الاطراف العراقية، اليوم، هو «هدنة» تعيد أجواء السباق الانتخابي الداخلي بوسائله التقليدية، بانتظار صفقة سياسية كبيرة تفرضها تلك الانتخابات، وأخرى تفرضها «جنيف 2».

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *