ما كان في حساب أحمد الموسوي، المهاجر من بلاده الهند إلى النجف، أن يحل حفيده محل الشاهنشاه (ملك الملوك)، وبصلاحيات «ولاية الفقيه المطلقة»، بعد أن طلبه أهل خُمين الإيرانية فقيهاً لبلدتهم (هويدي، إيران من الداخل). فكان يوم وفاة الخميني الحفيد (3/6/1989) استفتاءً عاماً على تأكيد ولايته، قبل خفوت ألق الثورة، وهذا لم يكن لخليفته خامنئي. يقول مهدي بازركان (ت 1995): «عباءة مفصلة على قياس الخميني» (هالم، الشيعة).
حكم الخميني خلال الحرب العراقية الإيرانية (1988-1980)، وكانت سنوات طوارئ، لا مطالبة ولا احتجاج، سنحت له إعلان ولاية الفقيه السياسية، بعد إزاحة غير الإسلاميين من الثوار، ومراجع الدين الكبار بالاحتجاز ومصادرة مدارسهم الدينية. كان المزاج مشغولاً بالحرب، مع إصرار الخميني على استمرارها، وبهذا تكون الحرب قد ثبتت نظامه.
تحسب حاكمية النظام الإيراني القلعة الحصينة للإسلام السياسي بفرعيه الشيعي والسني، و«الولاية المطلقة»، وإن كانت نظاماً إسلامياً مختلفاً عما أسس له إسلاميو السنة لكنه يبقى الشكل الآخر للحاكمية الإلهية. ذلك إذا علمنا أن الولي الفقيه نائب الإمام المنتظر. وحسب الخميني نفسه يحصل الفقيه على هذه الدرجة بوراثة العلم عن النبوة، فعنده الأنبياء لا يرثون إلا العلِم (الخميني، الحكومة الإسلامية)، وهذه أقوى حججه على ولايته السياسية.
لا تختلف التظاهرات التي اشتدت في يوم الجمعة (12/29/ 2017)، عن مثيلتها التي هدرت عام 1977، ثم تفاقمت خلال عام 1978، واضطر فيها الشاهنشاه لمغادرة بلاده (16/ 1/ 1979) ليدخلها الخميني بعد أسبوعين، ويعلن النظام الجديد في (2/11/ 1979) لكن ما الفرق بين النظامين؟!
بنى النظام الشاهنشاهي إيران الحديثة، وكان على الثوار أن يحسبوا لرضا بهلوي (ت 1944) إيجاده لإيران الكبيرة، بضم الأحواز (1924)، ومعلوم ماذا يعني نفط وشاطئ الأحواز لإيران، وتُحسب له النهضة المدنية التي على أساسها ملك الثوار قوة بشرية متعلمة ومساحة أرض هائلة، لكن الثوار جعلوا من قبره «دورة مياه» تنكيلاً به!
إذا كانت الحرب العراقية الإيرانية ساعدت ولاية الفقيه على ترسيخ الحكم، فاليوم على ما يبدو أن إيران تجد في سياساتها الخارجية تصريفاً للأزمات الداخلية، لكن، في كل الأحوال فإن ألق الثورة وحصانة القلعة في عام 1979 غيرها في عامي 2009 و2017، فالزَّمن يدور والأجيال تتوالى، والولي الفقيه ما زال يعيش مشهد الجماهير التي استقبلت الخميني القادم من باريس، من دون إدراك أن نيابة الإمام لا تعني شيئاً لدى الملايين المولودة بعد الثورة.
كذلك لا تفسر تظاهرات الحكومات ضد الشعوب إلا بالضعف والقلق، فبإمكان أضعف حكومة تسيير الألوف المؤلفة ضد معارضيها، لكن الشعارات المرفوعة ضدها كانت أكثر واقعية من لافتات المؤيدين لفكرة الولاية المطلقة نفسها: «انتهت لعبة الإصلاحي والمتطرف إلى غير رجعة»، لعبة الديمقراطية في ظل الولاية المطلقة. كذلك ورد انتقاد حاد للسياسة الخارجية وترك الداخل عارياً: «اترك سوريا وفكّر بحالنا»، وبما كره الإيرانيون بقضية فلسطين، لكثرة ما استخدمت شعاراً: «لا غزة ولا لبنان، روحي فداء لإيران» (عادل حبه، هل إيران حُبلى بأحداث وتحولات مصيرية؟).
ليست إيران استثناءً في الاحتجاجات، فالثورات العُمالية بعد حين عاد العُمال أنفسهم وتظاهروا ضدها. إلا أن خطورة هذه الثورة تتجسد في تبنيها فكرة دينية، وهي نيابة الإمام الغائب، قبل نحو 1200 عام، في السياسة، والنظام الإسلامي تمهيد لظهوره وما سيفعله: «يَمْلَأ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً» (سُنن ابن داود). مع أن التقليد الإمامي، الذي سُجن لاحتجاجه بالمرجع شريعتمداري (ت 1985)، يقول: «كلُّ راية تُرفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت» (الكُليني، الكافي)!
ليس مجدياً أن يُدعى نظام الحاكمية الدِّينية إلى الامتناع عن تصدير الثورة، لأن أُممية الدين والمذهب تفرض هذا السلوك، فالجيوش التي يُشكلها خارج الحدود تعد جزءاً من جيشه، والعلة ليست بخلل سياسي أو اقتصادي وإنما في الفكرة نفسها. إنها حيرة كُبرى أن يدعي الفقيه أنه يرث النبوة والإمامة في أمر السياسة، والقول لمطبق الفكرة: «يملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأمير المؤمنين على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب» (الخميني، الحكومة الإسلامية).
كيف الحال، وصور وريث النبوة والإمامة يحرقها الناس؟! صحيح أنه يقول: «عصابة خرجت وشقت». هنا يحضرنا ما قاله أمير خراسان نصر بن سَيَّار (ت 131هـ)، محذراً من الثورة العباسية: «أرى خلل الرمادِ وميض جمرٍ/ ويشوك أن يكون له ضرامُ» (الجاحظ، البيان والتبيين). أقول: وهل سيرى الولي الفقيه هذا الضرام غير خروج على النبوة والإمامة، وبالتالي على الله!