الابتكار والريادة في الأنواع الأدبية

الابتكار والريادة في الأنواع الأدبية
آخر تحديث:

د.ثائر العذاري

بين حين وآخر يتصدى ناقد أو مختص بالدراسة الأدبية لإثبات أن أدباء أمته كان لهم الريادة في نوع أدبي ما، ومن ذلك ما دار من جدال طويل حول الريادة العراقية في قصيدة التفعيلة، ثم الريادة العراقية في القصة القصيرة جدا، وأخيرا الريادة العراقية في المتواليات القصصية التي أزعم أني أكثر متابعيها والمهتمين بها منذ سنين، بل لقد ضغطت على بعض أصدقائي من كتاب القصة ليجرب هذا النوع من الكتابة. وفي هذا المقال أحاول التمييز بين مصطلحي الابتكار والريادة في الحقل الأدبي.يشترط علماء النفس في النشاط الفكري لكي يمكن عده ابتكاري ثلاثة شروط؛ الأصالة والمرونة والطلاقة، وهي مرتبة هنا بحسب أهميتها، فالمنتج المبتكر يجب أن يكون (أصيلا) أو نابعا من تجربة إبداعية لمن ابتكره لا مأخوذا عن مثال لمبتكر آخر، ويجب أن يكون من قام بالابتكار قادرا على تكرار توليد المنتج في ظروف مختلفة وهذه هي المرونة، كما يجب أن يستطيع إنتاج نماذج مختلفة من ذلك المنتج، وهذه هي الطلاقة. والقصد من هذه الشروط التمييز بين ما يمكن أن يتولد بالصدفة، وما هو ناتج عن تفكير ابتكاري حقيقي.  ولا يشترط تلازم الابتكار والريادة، ولا يكون من يبتكر هو صاحب الريادة دائما، ودليلنا على ذلك ما حدث في قصيدة التفعيلة، فقد كتبها في الثلاثينيات من القرن الماضي علي أحمد باكثير ولويس عوض في متون بعض المسرحيات الشعرية، وكانت شكلا مبتكرا، فهي جزء من التجربة المسرحية للكاتب (أصالة)، واستطاع تكييفها بما يخدم الموقف الدرامي (مرونة)، وكررها مرات عدة (طلاقة). ومع ذلك لم يقل أحد أن عوضا أو باكثير هما رائدا قصيدة التفعيلة، لأن الريادة لها شروط أخرى مختلفة عن شروط الابتكار. ثمة أربعة شروط لابد من توفرها في النشاط الأدبي لنتمكن من عده عملا رائداً، وهي القصدية والجدة والاستمرار والكثرة. فمن يمتلك الريادة يجب أن يكون قصد ذلك وأصر عليه، ومن المهم أن يكون العمل موضوع الريادة جديدا وصل إليه من تجربته الشخصية لا تقليدا لغيره، ويجب أن يستمر في كتابة نصوص من ذلك النوع المبتكر، وأن يكون ما يكتبه منها كثيرا قادرا، بكثرته، على ترسيخ ريادته.
فإذا واصلنا مثالنا السابق (قصيدة التفعيلة) سنلاحظ أن عوضا وباكثير لم يستمرا في كتابة ذلك النوع ولم يقصدا أن يكون نوعا منافسا للقصيدة العمودية، ولم يكن انتاجهما كافيا من حيث الكثرة لترسيخ الريادة. فإذا انتقلنا إلى تجربة السياب سنلاحظ أمورا مختلفة، فالسياب قصد أن يكتب نصا شعريا يخرجه من أسر القصيدة التقليدية، والنص السيابي ليس تقليدا لأحد، فقد كنت توصلت في بحث سابق (هو – نحو الحرية: دراسة في شعر السياب العمودي- يمكن للقارئ الكريم الاطلاع عليه لأنه منشور على مواقع كثيرة في الانترنت فضلا عن نشره الورقي)، إلى أن السياب توصل إلى هذا الشكل تدريجيا عبر التخلص من ثنائيات القصيدة العمودية واستغرقت هذه العملية سنين عدة. والسياب استمر في كتابة قصيدة التفعيلة بإصرار، وكتبها بكثرة كافية لترسيخ ريادته، فتمت له الشروط الأربعة.وفيما يتعلق بالمتوالية القصصية، من المهم أن نذكر أن الراحل غسان كنفاني كتب (أم سعد) عام 1968 وهي عمل إبداعي تتوفر فيه كل شروط المتوالية القصصية، لكننا لا نستطيع عده رائد هذا النوع الأدبي، فهو لم يقد ذلك بدليل كتابته كلمة (رواية) على غلافها، كما إنه، على الرغم من جدة العمل، لم يكرره.ومثله الراحل نجيب محفوظ في (حكايات حارتنا) التي تقدم مثالا نموذجيا للمتوالية القصصية، لكنه ليس رائدها لأنه لم يقصد ذلك ولم يستمر عليه ولم يكثر منه.ومنذ مطلع القرن الحالي ظهرت مجموعة كبيرة من الكتاب الشباب في مصر ممن كانوا يضعون على أغلفة كتبهم عبارة (متوالية قصصية)، الأمر الذي يدل على القصدية، ومنهم، مثلا، القاص منير عتيبة الذي أصدر ثلاث مجموعات قصصية متتالية جنسها على غلافها بأنها (متوالية قصصية)، بل إن الملاحظ أن المتواليات أصبحت عند الكتاب المصريين هي النموذج الأشيع للكتابة القصصية.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *