بغداد/ شبكة أخبار العراق- في الماضي القريب ، كان المقهى البغدادي ظاهرة اجتماعية خالصة وملتقى لرجال الادب والعلم والسياسة والفن وقراء الشعر ومنبعا للأفكار والرؤى والذاكرة الثقافية لمرتاديه كونه مكانا لتاريخ الثقافات وتبادل الخبرات والتجارب .ورغم سمات الفقر والبساطة التي تميزت بها المقاهي البغدادية القديمة بارائكها الخشبية ومواقد شايها التقليدية واراكيلها وسقوفها العالية ذات الطراز العثماني وماتحمله جدرانها من صور نادرة ، الا ان بعضها مازال يحتفظ بعبق الماضي ويجتذب الادباء والمثقفين بينما طغت السمة التجارية على البعض الآخر وبقيت لصيقة بالذاكرة فقط .عرفت بغداد مقاه ادبية عديدة بينها ( البرازيلية ) و( السويسرية) في شارع الرشيد ، و( الزهاوي ) و( الشابندر) في شارع المتنبي ، وهناك مقهى ( المعقدين) ومقهى (أم كلثوم) و(حسن عجمي ) و( البرلمان ) وغيرها .
المخرجة السينمائية ايمان خضير وجدت في المقاهي البغدادية الادبية مادة لفيلم وثائقي حمل عنوان (مقاهي بغداد الادبية ) انجزته بدعم من وزارة الثقافة وقامت بعرضه في بعض الدول الاوربية كما قامت بعرضه في مقهى الشابندر مؤخرا بالتعاون مع دائرة العلاقات الثقافية العامة .ويروي الفيلم قصة المقاهي والاحداث التي دارت فيها مستندا الى كتاب حميد المميز (بغداد كما عرفتها ) الذي يروي فيها كيف كان شباب بغداد يقضون سهراتهم في المقاهي الخالية من المذياع والتلفزيون ، اذ كانوا يستمتعون بعروض ( القره قوز) او (خيال الظل) ويمارسون ألعاب الدومينو والنرد ويستمعون الى ( القصخون ) .
تقع مقهى ( الشابندر ) بجوار منطقة تشبه السراي الحكومي آنذاك حيث اسست اول حكومة بعد الاحتلال البريطاني برئاسة الملك فيصل الاول فكانت بمثابة المنقذ للمواطنين وقام بادارتها عدد من الاشخاص كان آخرهم محمد الخشالي الذي قال عن مقاهي بغداد :”لم يبق الا القليل من الأماكن التراثية في العراق اذ حملت أغلبها الطابع التجاري ..فيما يخصني ، آليت على نفسي ان امنع ممارسة العاب الدومينو والنرد في الفترة الأخيرة لتكون المقهى مخصصة للثقافة والمثقفين “.مشيرا الى ان “شارع الرشيد الذي تم شقه في زمن الوالي العثماني خليل باشا عام 1916 اصبح مركزا لجذب العامة على اختلاف مشاربهم وسمي في عهد الانتداب البريطاني شارع الرشيد تيمنا باسم الخليفة ( هارون الرشيد) وكان اول مقهى اسس فيه هو مقهى ( جلال زادة) عام 1853”.
وبلغ بعده عدد المقاهي الى 599 مقهى في عام 1934 …وكان أشهرها مقاهي الزهاوي وحسن عجمي والشابندر وام كلثوم ، وفي بداية الامر ، كانت المقاهي تقدم القهوة والاركيلة وكان الرواد يجلسون في المقهى مجانا كما كان يحدث في مقهى الزهاوي مثلا ويجلبون معهم التبغ بينما يقدم لهم صاحب المقهى الاركيلة فقط .ويروي الخشالي كيف شهدت مقهى الشابندر المعارضة الطلابية في زمن الاحتلال الانكليزي ومورست الاعتقالات العشوائية تبعا لذلك وكانت المقاهي تستخدم كاوكار للمعارضين وتم اعتقال بعضهم فيها !.من جهته ، يعزو الكاتب والصحفي زهير الجزائري انتشار المقاهي في بغداد القديمة الى خلو البيوت البغدادية القديمة من اماكن لاستقبال الضيوف منوها الى ان المقاهي كانت مركزا للمتعة اذ تعرض فيها الروايات مثل ( ابو زيد الهلالي ) و( عنتر بن شداد) وكان للقصخون تأثير كبير على رواد المقهى اذ ينقسمون الى فريقين مابين مؤيد ومعارض لاطالة الحكاية الى اطول فترة ممكنة .ويؤكد الجزائري على ان اول من وضع في مقهاه جوقة موسيقية تدعى ( الجالغي البغدادي) كان يدعى (سبع) وهو صاحب مقهى (الشرق) ، وبعد اعلان الدستور عام 1908 ، تقدم بطلب لجلب مطربات من مصر وكان ريع الحفلات يذهب الى الجهد الخيري واستمر ذلك حتى عام 1943 .ويرى الباحث زين النقشبندي ان مقاهي بغداد اتخذت مكانتها كمراكز للتوجيه الفكري في اواسط العشرينات ، بعد ان كانت الجوامع كجامع الحيدرخانة تحتل الدور الاكبر في التوجيه ضد الانكليز خاصة مع قيام ثورة العشرين ، لكن فشل الثورة دفع الناس الى تعقب الاسباب والتوجه الى المقاهي حيث الناس التي تقرأ الصحف وتعرف الاخبار ويمكنها الاجابة على الاسئلة ، وهنا بدأت الطبقة المثقفة تلعب دورا مهما الى جانب رجال الدين وتحولت المقاهي الى مراكز لتجمع المثقفين .
ومن المقاهي الأدبية الشهيرة مقهى الزهاوي الذ قاد فيها الشاعر محمد صدقي الزهاوي معركته الأدبية التي تمثل أول حركة نقد أدبي في العراق شغلت الرأي العام ، فكانت المراسلات تنشر على صفحات الجرائد بينه وبين محمود عباس العقاد او محمود أحمد السيد كما شهد هذا المقهى حلقات السجال والمناقشات التي جرت بين الشاعرين الزهاوي والرصافي وشكلت حدثا كبيرا تناقلته الألسن وشغلت الناس بأجوائه .ويؤكد الشاعرحميد قاسم ذلك مشيرا الى ان الزهاوي عرف بابتعاده عن السياسة وانشغاله بالفلسفة والأدب ومناصرة المرأة ..ويروي قاسم كيف اشتعل عام 1948 بالمفاجآت حين خرجت مظاهرات احتجاج ضد معاهدة بورت سموث بين العراق وبريطانيا وانطلقت اغلبها من المقاهي وقتل فيها عدد من الشباب بينهم شقيق الشاعر محمد مهدي الجواهري فرثاه بقصيدة كانت بمثابة صرخة وجع بعنوان ( أخي جعفر) وكان قد نظمها على تخوت مقهى ( حسن عجمي) المواجهة لجامع الحيدرخانة ثم خرجت التظاهرات الصاخبة بعد القائه القصيدة دون أن يفكر المتظاهرون بأن الجامع سني والشاعر ماركسي وشيعي أيضا ..كانوا مفجوعين بموت الشهداء ومدهوشين بسحر القصيدة وبلاغتها فطافوا شارع الرشيد منددين بالمعاهدة الجائرة وبسقوط حكومة صالح جبر فكانت القصيدة مثل نبوءة لما سيعصف بالعراق لاحقا ..
من جهته ، يرى الصحفي وعميد كلية الاعلام هاشم حسن ان فترة الخمسينات والستينات شهدت تنوعا في رواد المقاهي مابين الادباء والتشكيليين والشعراء والاطباء والمهندسين وكانت افكارهم متلاقحة وتدل على وحدة وطنية خالصة وكانوا يحاولون أن يخلقوا واقعا جديدا وهم يستمعون لاغاني ام كلثوم وانغام يوسف عمر ، مشيرا الى وجود روايات تناولت حياة المقاهي وشخصيات روادها مثل ( خمسة اصوات ) و( النخلة والجيران) لغائب طعمة فرمان ، ورواية ( القمر والاسوار ) لعبد الرحمن مجيد الربيعي التي تحولت الى فيلم سينمائي اذ صورت حياة أبطالها وهم يعيشون ذروة الصراع السياسي في المقاهي التي كانت تمثل وكرا سياسيا للوصول الى صيغ جديدة لسياسات الانظمة التي جعلت منهم جيلا غير تقليدي تبنى الحداثة كمناخ للحياة .
اما الكاتب والصحفي اسماعيل زاير فقد كان بدوره واحدا من رواد مقهى ( المعقدين ) في شارع ابو نؤاس والذي سمي بهذا الاسم – حسب زاير – لتواجد عناصر الأمن في سنوات الستينات في المقاهي اذ كانوا يتلصصون على روادها فيسمعونهم يتحدثون عن أسماء لايعرفونها مثل ( سارتر وكامو وساغان وغيرهم ) ويضعون النظارات السوداء ويحملون الكتب دائما ولهذا اطلقوا على المثقفين صفة ( المعقدين) لأنهم لايفقهون مايقولون ويفعلون ….وقد واصل المثقفون ارتياد المقاهي الادبية حتى سنوات الثمانينات والتسعينات وولدت فيها اجمل القصائد والاعمال الادبية ..
لقد طالت التفجيرات الارهابية بعض المقاهي الادبية أيضا مثل مقهى حسن عجمي ومقهى الشابندر الذي تحول الى انقاض اثر التفجيرالارهابي الذي وقع في شارع المتنبي عام 2007 وراح ضحيته العشرات وكان بينهم أولاد صاحب المقهى محمد الخشالي الخمسة ..ويقول الخشالي ان الجثث ملأت المكان والتصقت الاشلاء بجدران المقهى ولم يعثر على العديد من الجثث ، لكنه وجد في اعادة المقهى الى الحياة في عام 2009 أملا جديدا يحيا من اجله فخصصه لاستقبال المثقفين والرواد القدماء .
وبعد تلك التفجيرات ، بدا الفنانون والادباء يتجمعون في شبه مقاه ظهرت في الكرادة وبدأت تتوسع شيئا فشيئا اذ كانت خالية من المقاعد وكان روادها يتناولون الشاي فيها وقوفا لكنها شكلت تحديا للارهاب وانحسار المشهد الثقافي في السنوات السابقة ..ورغم اندثار عدد كبير من مقاهي بغداد وتحول بعضها الى متاجر او مطابع لكن هناك بعضا منها ماتزال تتحدى الزمن وتستقبل روادها لتذكرهم برائحة الماضي وحكايات ايام زمان. وطالب عددا من المثقفين بمختلف اتجاهاتهم الحكومة من رعاية مقاهي الزمن الجميل باعتبارها من التراث البغدادي الاصيل.