شهد المجلسان التشريعي والتنفيذي في البلاد خلال الخمسة عشر عاما الماضية، اعتلاء شخصيات مناصب عليا في مؤسساتهما، ومن المعلوم أن هناك مناصب في محك مباشر مع التعاملات المادية، كإبرام العقود والاتفاق مع شركات في مجالات عديدة، لاسيما أن مؤسسات البلاد بعد عام 2003 تفتقد كثيرا من المؤهلات التي تمكنها من أداء دورها في إعادة إعمار ما دمرته الحروب، ومن قبلها الحصار خلال حكم النظام السابق.
ولا يخفى على الجميع مثلنا القائل: (مال السايب يعلّم عالحرام) وعلى ضوئه فقد شرعت شخصيات عديدة ممن تسنموا مناصب في المؤسستين المذكورتين، في استغلالها وتسخيرها تجاه مصالحهم ومنافعهم الشخصية، وتعاملوا مع المال العام كمال سائب، وسوغوا لأنفسهم سرقته تحت مسميات عدة. أما من كانوا بعيدين عن الاحتكاك مع التعاملات المادية، فقد اختلق بعضهم ألف طريقة وطريقة لملء جيوبهم، ولم يضعوا لمعايير العيب والحرام وغير الجائز اعتبارا، وصار همهم الوحيد هو الاستحواذ ما استطاعوا على الأموال، دون أن تدخل بحساباتهم عواقب الأمور، وما هذا إلا لاطمئنانهم من خواتيمها، وقد قيل سابقا: (من أمن العقاب ساء الأدب).
في الدورات السابقة للحكومة والبرلمان، علت بين حين وآخر صيحات، عن اختلاس س من الوزراء أو ص من النواب، مبلغا ماليا تصطف على يمينه الأصفار بما يذهل العقل، إذ تبلغ السرقات حدا يتجاوز بعضها ميزانيات دول مجتمعة، وكلها طبعا تأكل من جرف الحالة الاقتصادية للبلاد، وتضيق الخناق على عيشة ملايين العباد.
وإزاء أغلب هذه الحالات -إن لم يكن جميعها- يقف القانون متفرجا، إذ تستحيل بنوده ومواده وفقراته إلى حبر على ورق، ولا تعدو نفاذيتها النشر في الجريدة الرسمية، دون أن تطال السراق والمختلسين على أرض الواقع، بشيء من المحاسبة أو التوبيخ أو حتى إلفات النظر. والأخيرون غير غافلين عن هذا، فبساط ريحهم مختوم من مديرية الجوازات العامة، وتأشيرة السفر جاهزة للإقلاع، والبلد الحاضن بالانتظار، حيث الأهل والمقربون سبقوهم إلى هناك قبل حين، وقبل هذا وتلك وذاك، فإن الحصانة هي درعهم الحصين، والحجاب الذي يستر سرقاتهم، والباب الذي يؤدي بهم إلى طرق الخلاص والنفاذ إلى الجهات الآمنة، ومع هذه المعطيات يكونون قد فلتوا من الحساب وآمنوا العقاب، وودعوا البلاد من غير رجعة هم وأهلوهم وخاصتهم. وهناك تفتح المصارف أبوابها على مصاريعها لاستقبالهم، وكيف لا! وهم أثرياء حد التخمة، وبحوزتهم مال يسيل له لعاب المستثمرين، وسيقضون حياتهم بكل طمأنينة واستقراء ورفاهية، بعيدا عن العراق بعد أن أكلوه لحما ورموه عظما.
على ضوء ماتقدم، وخشية استمرار النهب والسرقات تحت جنح المناصب وحصاناتها، طالبت أصوات عديدة أطلقتها شخصيات وجهات وأحزاب، لايعلم نزاهتها إلا مكون الأكوان، بمنع سفر النواب والوزراء والمسؤولين الكبار المنتهية ولايتهم، وتعلو الأصوات بإيقافهم عن سفرهم حتى تبح، كما بحت أصوات من “قبلهم” دون جدوى تذكر.
ومع ارتفاع هذي الأصوات، هناك رائحة تواطؤ واتفاق، كانت قد أزكمت أنوف العراقيين فيما تقدم من سنين، وفي القادمات مثيلاتها لن تكون أقل نتانة من السابقات، إذ ماقيمة المعارضة إذا كان الاتفاق مبطنا؟ وما الجدوى من الرقيب إذا كانت الغنيمة محسومة قسمتها بين الرقيب والمراقَب؟ وما فائدة الكفيل إذا كان هو المكفول “دهن ودبس”؟ وقد قيل في الأمثال: (عصفور كفل زرزور واثنينهم طيارة).